الجزء الأول

 

"الماءُ زمانٌ فِضِيٌّ وعِباداتٌ مَتْروكَه

يَتَكاثَر فيْها آلهة تُعَساءْ

ألأسْوَدُ لَونُ الصَّيْف المُعْلَنْ

ألبُوقُ يُصَرِّخ فَوق مَصَبَّات الأنهارْ"

منصور الرحباني

__________________________

......

ضيعة "القاطع" تجاور الجسر، وطالما تعايش أهاليها مع أهل الجسر وبادلوهم الأمنيات وشاركوهم مسراتِهم وأفراحَهم وأعيادهم فـي جو من الإلفة وحسن الجوار. وكم من حالة تَوَّج الأهالي فـي القريتين قربتَهم بمصاهرة دافئة وحَّدت المشاعر والأماني الصادقة والأسر أيضا ً.

والمياه التي كانت تغذي أراضي ومزارع الضيعتين موفرة ً المواسم الجيدة للجميع مثَلـَّتْ على الدوام دعامة المودة والصداقة وكرَّست القاعدة التي يفتخر بها الناس فـي مثل هذه الضيَع والتي تعبر عنها جملة بسيطة (مياهنا واحدة) أو (نحن نشرب من نفس النبع). ولكن الأرض لا تزدهر بالمياه وحدها.. سواعد الفلاحين هي العنصر الأول فـي صنع الخير وتحقيق الرفاهية. كان أهل القاطع الذين تصلهم المياه من شرق الجسر نشيطين مليئين بالحيوية جادين فـي زرع الأرض ورعايتها وجني محاصيلها فتألَقتْ حياة أهليها وتدفقت مواسمهم وتلونت جنائنهم.

.......

فـي ضيعة جسر القمر حكاية تناقلها الأهالي عبر السنين.. ربما سرَّبها إليهم فـي البداية أناس من بينهم أقلقتْهم حالات التوتر والعداء والبغض مع جيرانِهم القريبين، أهلِ ضيعة القاطع. وتتلخص هذه الحكاية بأن الجانَّ وملوكَهم يختبئون تحت الجسر ولا يظهرون إلا للنائمين عند حافته وهم يحرسون كنزاً لا يعرف مكانه أحد من الأنس. لهؤلاء الجانِّ صفات خاصة وأشكالٌ غريبة يتخيلـُّها المُصْغون إلى الحكايات أشباحاً ذات رهبة وقوة تأثير تفرض على من يراها الخشوع والخوف والالتزام بما يُطلب منه أملا ً بالحصول على منحة يختار نوعَها وشكلَها وربما كميتَها.

 .......

فـي إحدى أمسياته، بُعيد الغروب وقبل أن يضيء قمرٌ تمُّوزيٌ مكتملٌ أصفرُ سماءَ الجسر وبساتينَها وحاراتِها، وفـي آخر دقائقَ لشيخ الضيعة قبل أن تقوده قدماه شرقاً باتجاه البيت وقد نال التعب منه فبدأت أجفانه بالذبول لتحول بينه وبين القدرة على تلمُّسِ طريقِه، يأتيه صوتٌ مجهولُ المصدر يثير فـي نفسه الدهشة الممزوجة بفرح طفوليٍّ بريء:

الصبية:                         أخدْني القمرْ             أخدْني القمرْ

بِليْلِة ْ قمرْ               عَ جسر القمرْ

بهذا المشهد يبدأ الفصل الأول من المسرحية الغنائية (جسر القمر) من تأليف وتلحين الأخوين عاصي ومنصور على مسرح مدينة بعلبك الأثرية فـي صيف عام 1962، بعد مقدمة موسيقية هادئة بسيطة وقصيرة تتلاءم وانبثاق زهرة الغروب الخجولة من بين ركام الأحجار على جانب نهر شحَّت مياهه واختفي خريرُها ليحلَّ محلـَّه سكونٌ مطبق يزيد المكان رهبة ً والمغيب وحشة ً وبرودا.

وبصوت فيروز، الذي ينتظره المشاهدون وقد تهيَّأت له قلوبُهم وعقولُهم وصاغياتُهم تَعِدُهم بفيض من الاهتزازات أعمقِها والمشاعر أنبلها تحلـِّق معها أرواحهم فـي لقاء صاحبة الإطلالة الملائكية والصوت المخملي والحضور العذب، يدرك الجمهور أنهم مدعوون إلى رحلة شيِقة أخرى فـي عالم الإبداع الرحباني الثريِّ الأخَّاذ.

تبدأ الصبية المسحورة حوارها المنغَّم مع مضيفها الشيخ بالتحية بالاسم:

الصبية:                    سَعِيدة يا شَيْخ الِمْشايِخْ

ويرد الشيخ التحية مبادراً بسؤال الصبية عمَّن تكون كاسراً حالة الرهبة عنده:

شيخ المشايخ:              سَعِيدة.. مينِكْ إنتِ مينِكْ ؟

ويستعيد الشيخ هدوءه تماماً بعد أن يولِّد طلبُ الصبية إحساساً بالثقة المتبادلة:

الصبية:                   خَلِّصْني يا شَيْخ الِمْشايِخْ

شيخ المشايخ:              قوليلي شو قِصّتِكْ.. تـَ عينِكْ ؟

وتعرِّفنا الصبية بقصتها فـي سردٍ نصف غنائيٍّ يصاحبه عدد محدود من عناصر الأوركسترا بلحن ناعم هاديء تسبح نوتاته فوق أمواج الصوت الكنائسي الساحر لفيروز الشابة ذات السبعة وعشرين ربيعاً

الصبية:         مَسْحُورة أنا.. أنا هالصَّبيِّة           الزِهْره الْمِسِتْحِيــــِّــــة

                سَـحـْـرونـي أنــا              بـْـلـَيـْـلــِة قـَمـَريـِّة

                زَرْعوني عَ الطَّريق                 عَ جـِــسْـر الْقـَـمـــرْ

               عَ الـْمَفـْرَق الـْعـَـتيق            وْ مـا عـادْلي خـــــَبَرْ

.......

ولكن الثقافة المبنية أصلاً على الملكية الخاصة وعلى تبرير الجشع والأنانية وتحويلهما إلى قضية (الأهالي) سعياً لحشدهم وجرِّّهم إلى التضحية بالعلاقات الحميمة مع أقاربهم وجيرانهم وبالسلام والطمأنينة من أجل الحفاظ على مصالح مستغلِيهم، هذه الثقافة توفِر الفرصة لمزيدٍ من التوتر والتصعيد، لذا نرى أصحاب تلك المصالح وذاك النفوذ حريصين على تبنيها وتنميتها ورفع درجة التعبئة من خلالها.

هاهو (صالح) الإبن البكر لمختار القاطع يصل ساحة ضيعة الجسر وعيناه تفيضان بالغيظ وفمه يجهر بعبارات التحدي والتهديد والوعيد وفرَّاعتُه بيده جاهزة للقتال.. بينما تلقاه إحدى فتيات الضيعة (هيفا) مستنكرة قدومه العلني وتحدِّيه الصارخ الصريح، فيدور الديالوج الشعري الإلقائي التالي:

صالح:                              نحنا من أهْل القاطع جينا لْهالْحَيّ

بَدنا نِحْكي ونْشارعْ عَ سَقْي الْمَيّ

 .......

بانتهاء دبكة الخيام تتخامد الموسيقا وتتخافت الإضاءة دليلَ انقضاء اليوم الذي يغادر الجميع عند غروبه خيامَ القش عائدين إلى بيوتهم فـي الضيعة بعد أن أمضوا نهاراً مليئاً بالعمل والمتعة والفرح. إلى الخيام القريبة من جسر الضيعة الذي يفصلها عن القاطع، تصل هيفا هائمة ً تفكر، وهي تراقب الشمس الآفلة من جهة ضيعتها، بالحالة البغيضة التي يعيشها أهلها فـي علاقتهم بجيرانهم وأقاربهم. وفـي لحظات صمتها ووحدتها يصل أبو رافع العائد من أرضه فتبادره بالأسئلة عن أهل القاطع، وهو الرجل الوقور الذي عاش تاريخ الضيعتين ورافق أحداثهما وخَبِر أهاليهما:

هيفا:              عَمـِّي يا بو رافِعْ       خَبِّرْني عن أهل القاطِعْ

أبو رافع:          أهْلْ القاطِعْ         شمْلاتُنْ حمْر كْفافيْهُنْ حمْر

نحن الآن فـي ساحة الضيعة وأمسية العيد التي استعد لإحيائها الفتيان والفتيات وعموم الأهالي والجميع راغبون بالفرح وآملون بالسعادة وهم يتمنون أن يستمتع بالعيد ضيوفُهم الذين قبلوا الدعوة وهم قادمون من ضيعة القاطع إثباتاً لحُسْن النوايا وأملاً باستعادة المودة وحسْن الجِوار.

تمهـِّد الموسيقا لأولى صور العيد والناس يتقاطرون إلى الساحة بزهوٍّ وتباشير الفرح تملأ الفضاء وتتلألأ بها الوجوه. اللحن الأساسي لهذه المقطوعة، والتي تشكل التحميلة التي سينسج على نغمتها لحن الأغنية التالية، يذكـِّرنا بالـ(ألليغرو) الذي يتجمع على نغماته القادمون إلى الساحة فـي عرس (نجلا وعبدو) فـي مسرحية (موسم العز) المقدمة قبل سنتين، والذي رافقت ألحانٌ تماثله وتجاريه روعة لوحاتِ تجمـُّع الناس فـي الساحات لإحياء الأفراح..

الشيخ مخاطباً جماعته:

                ما زال بْضَيعــِتــْنا الــعيد              وْلــو إجــا صالــحْ وانْغَرّ

                خَلـُّيْنا مْــن بْعيد لــَبعــيد               الليلة مش رحْ نعمل شــــرّ

.......

تلحـِّن الكمان للفارسين يدوران بحذر وتركيز وقد انحنى الجسدان قليلاً ضماناً للتمكن من تلقي الضربة المباغتة واستعداداً لتوجيهها فـي اللحظة المناسبة.. برهة ويأتي الجميع صوت غير متوقع لضيف عزيز.

تمهد الموسيقى الخاصة لظهور الصبية المسحورة المفاجيء الذي يبهر به الجميع فتسود الدهشة ويعم المكان سكون

الصبية المسحورة:                          يمسِّيكُن بالْخَير

ِيمسِّيكُن بالْخَير ماتْردُّو الْمَسا

والمسا لـَ ألله يمسِّيكُن بالْخَير

الجمع :                                          يْمَسـِّيكي بالْخَير

يعدِّل المتواجهان قامتيهما ويرجع كل منهما خطوتين إلى الخلف بينما يستمر الصمت وتتغير تعابير الوجوه جميعِها.. لقد أضاءها القمر.. وسحر الجميع صوت فيروز الملائكي.

فيروز:                           الليلة بْيطْلَع القمر      والكنز بْيطْلَعْ معو

وْ لمِّن بْيظْهَر الكنز

رَحْ تِغْنى ضِيَعْكُن وْ تِتْلَوَّن عْيادكُنْ   وبْيفْرَحو وْلادْكُنْ

وتطلع فيروز التي انْفَك سحرُها للتـَّو بموَّال لكلماته الرائعة البسيطة أحلى الدلالات وأقواها..  وفيه فحوى الثقافة الاجتماعية الرحبانية وحب السلام والتعايش بين الناس بمفهومه الرحباني:

فيروز:                          وْ كلّ ضيعة بَينْها وْ بَيْن الدِّني      جِسْر الْقَمَر

 

تحميل الصفحة كنسخة ملائمة للطباعة