3

:: "طيور أيلول" لـ املي نصرالله سيمفونية متكاملة من الرقة والرقي ::

   
 

التاريخ : 09/02/2014

الكاتب : ميشلين حبيب   عدد القراءات : 3568

 


 

 

 

عندما كنت تلميذة في أوائل المرحلة المتوسّطة، قدّم لي رئيس قسم اللغة العربية، تقديراً منه لتميّزي في مادة الأدب والكتابة، كتاباً قيّماً كان قد فاز بجائزة أدبية مهمة ذلك العام كما شرح لي. عنت لي تلك المبادرة من شخص أديب مثله الكثير، وعزّزت عشقي للأدب والشعر، وسكنت ذاكرتي وقلبي، خصوصاً أنه قَدِمَ مع زوجته وابنه إلى منزلي ليقدّم لي الكتاب؛ وأضاف وقتها أن صاحبته أديبة استثنائية وأن قراءته ستفيدني. اسم الكتاب "طيور أيلول". ومنذ ذلك الحين، في كل مرة يحلّ أيلول يعود "طيور أيلول"، الذي أصبح جزءاً لا يتجزّأ من ذاكرتي الأدبية واللبنانية، إلى الحياة. وكأن أيلول أصبح ملكاً لهذا الكتاب ولا يمكن أن يمرّ إلا من خلاله. واليوم بعد أن احتفل طيور أيلول بيوبيله الخمسين أيلول الماضي، لم يتغيّر شيء ولم أستطع إلا أن أعود إليه هذا الأيلول لأقدّم له التحية من جديد.

 

 هو أهم وأشهر أعمال الأديبة الكبيرة اميلي نصر الله؛ تُرجم إلى لغات عديدة آخرها الألمانية. وحين سألت اميلي نصر الله لماذا يهتم ألمانيون بكتاب يجسّد قرية في لبنان، قيل لها لأنه جسّد حقيقة كل قرية. 

إن اميلي نصر الله في طيور أيلول لم تجسّد القرية فقط وإنما جسّدت نفسها أيضاً في الفتاة القرويّة التي غادرت القرية ورسمت الطريق لنفسها ومشتها بثبات وتصميم. وبذلك خلّدت اميلي نصر الله الكاتبة، اميلي نصر الله الإنسانة، وخلّدت معها القرية بمفهومها وطابعها. وإن اختفت معالم القرية يوماً، يمكن الاعتماد على "طيور أيلول" لخلق قرية من جديد.  

 

 "طيور أيلول" سيمفونية متكاملة من الرّقة والرّقي، من الجمال والأدب؛ هو عمل أدبي عظيم بأنغام كلماته، ينقلنا كل تعبير فيه لنغوص معه في أعماق طيّات أدب اميلي نصرالله وجمال الكون المتمثّل في الصفحات بين يدينا. ترتفع بنا هذه السيمفونية ونحاول أن لا يفوتنا منها شيء؛ لا نشبع من قراءتها، وعندما نتركها نشعر كأننا فوّتنا جرعة من ذلك الجمال والرّقي فنعود إليها من جديد. "طيور أيلول" هو أيضاً لوحة بغنى تفاصيله وألوان صوره. وهل تشبع العين أو تملّ من اللوحة وألوانها؟ وهكذا لا تشبع النفس من هذه الصفحات وإنما تستمر بالعودة إليها لتستسلم لسحرها.

إن الأسلوب الأدبي الرائع العبق بكثافة وجمال الصور الشعرية يأسر القارئ ولا يتركه إلاّ عندما يقرّر أن يرتاح عند آخر كلمة في الكتاب. لذلك يمكن القول أيضاً أن "طيور أيلول" جلسة تنويم مغنطيسي لا نفيق منها الا عندما تقول الكاتبة "وقفتُ هناك أمدّ ساعدي للريح: بطلة خائرة في حلبة الصراع، نقطة استفهام على جبين الأرض."

صحيح أن "طيور أيلول" يتناول القرية والهجرة، لكن اميلي نصرالله في "طيور أيلول" تَعْرِضُ دون أن تَحْكُم، بذكاء ووضوح، وتتمرّد بلطف ووعي. هو وصف للقرية بمعالمها ولكنه تحليل لمضمونها وإلقاء الضوء على ما تحتويه من مآسٍ. إنها تتغنّى بما يستحقّ المدح في القرية، لكنها لا تنسى أن ُتشير ببساطة ووضوح إلى ما يُبهت رونق هذه القرية من تقاليد وأفكار خانقة.

وأرى هذه السيمفونية لحن حنين وتمنّ. لو كان للقرية بعض من جوانب المدينة، ولو كان للمدينة بعض من جمال وحقيقة القرية. إنه تمنٍّ فقط، إذ على الإنسان أن ينتمي الى مكان ما. وهذا ما تُظهره نهاية الكتاب حين وقفت منى حائرة من دون هوية؛ عادت الى مكان لا يعرفها، لكنها تعرفه، وأعادها الى مكان يعرفها لكنها لا تريد أن تعرفه. وكان عليها بعد ذلك أن تجد هوية وتحدّد زماناً ومكاناً وتاريخاً لها.

وهذا ما ستفعله اميلي نصرالله على مدى ستين عاماً في نتاج أدبي غزير يظهر كله هوية تلك الأديبة التي كانت الصوت المنادي بالحفاظ على هوية أرضنا الخصبة وإبعاد من يحاولون جعلها عقيمة.

 

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.