3

:: مجموعة "خط انتحار" لأمير زكي ::

   
 

التاريخ : 18/03/2015

الكاتب : أحمد الخميسي   عدد القراءات : 990

 


 

 

-1-

أمير زكي كاتب جدير بكل تقدير، كاتب لا يلهث وهو يكتب وراء الغرائب وإبهار القارئ، فإذا انتهى من الكتابة لا يلهث وراء النشر، فإذا نشر لا يهتم بذلك المفهوم التجاري المسمى "بِسْت سيللر"، ولا بالتعليقات العابرة. الكتابة بالنسبة إليه اكتشاف للنفس والعالم بعملية إبداع، لهذا فإن عالمه الأدبي مستمّدٌّ بالكامل من داخله، من قناعاته، من حيرته، من الأسئلة التي تؤرقه فعلا، وليس من الأسئلة التي يُفترض أنها مؤرِّقة.

مبروك المجموعة الجميلة "خط انتحار" وهي أولى مجموعات أمير وبالتأكيد ليست الأخيرة. مبروك لصديق وزميل عزيز ورفيق كتابة شكل صعب هو القصة القصيرة التي قالت إيزابيل الليندي عنها "إن الكتاب بحاجة لكتابة الكثير من الروايات ليتقنوا كتابة قصة قصيرة".

تصدر المجموعة في وقت يجري فيه الكثيرون وراء الرواية، ظنّا بالخطأ أننا نعيش زمن الرواية، وأن القصة القصيرة تتوارى. لكن القصة القصيرة لا تتوارى ولا تشحب، أما ضعف الاهتمام بها فيعود إلى وجود سوق تجارية كبيرة يحكمها جمهور عريض من قراء يفتشون عن تسلية طويلة الأمد. أما القصة القصيرة فكانت وستبقى شكلا مميزا من أشكال السرد، استطاعت بعض نماذجها أن تناطح روايات عالمية وتتجاوزها أو تبقى بجوارها، كما هي الحال مع قصص تشيخوف، وأو. هنري، وهنري كورتاثر، وغيرهم من عظماء ذلك اللون الأدبي. وسيظل العالم يقرأ قصة "موت موظف" وقصة "حكاية مملة" لتشيخوف بينما أهمل العالم مئات الروايات. وسيظل العالم يقرأ قصة "الحرب" للويجي بيراندللو، وقصصا اخرى كثيرة "أليس مونرو" و بلاتونوف وغيرهما.

عن مجموعة أمير زكي، هي إضافة لتاريخ طويل من القصة القصيرة المصرية بدأ بقصة تيمور "في القطار" عام 1916، وتشبع بإبداعات أحمد خيري سعيد، والأخوين شحاتة وعيسى عبيد، ويحيى حقي، وطاهر لاشين، مرورا بيوسف إدريس ثم جيل الستينات، والأجيال اللاحقة وفي مقدمتها كوكبة من الكتّاب المرموقين أولهم من دون شك محمد المخزنجي، ومحمد عبد النبي بمجموعته البديعة "شبح تشيكوف"، ومحمد إبراهيم طه، وعزة دياب، وعزة رشاد، وشريف صالح، والكاتب الموهوب إيهاب عبد الحميد ومجموعته الرائعة "قميص هاواي".

أمير زكي آخر العنقود في سلسلة أبناء وأحفاد محمد تيمور، أبي القصة القصيرة، وهذا يمنحه امتياز التعرُّف إلى كل تلك الانجازات، كما يحمله مسؤولية تجاوزها في لحظة أصبح مفهوم القصة القصيرة فيها مرواغا للغاية، بل ويكاد لا يوجد مفهوم محدَّد شاملٌ جامعٌ لذلك الشكل السردي. هناك آفاق مفتوحة للتجريب بلا نهاية، مما يمثل اختبارا صعبا بالنسبة للكاتب الذي تواجهه مشكلة: كيف يكتب؟ ما هي القصة بالضبط في زمن تداخلت فيه الأنواع الأدبية؟ كيف واجه أمير تلك القضية؟ هنا يبدو القاص مثل لاعب سيرك عليه أن يتحرك على عشرة حبال في وقت واحد وأن يجرب بقدمين اثنتين كل ذلك ليصل إلى الخطوة الصحيحة.

 

-2-

المجموعة تضم 12 قصة قصيرة، تقدّم لنا مجتمعة عالما موحدا، تربط بينه وشائج من الرؤية الفكرية الخاصة. هو عالم يقدم لنا الإنسان الفرد في عجزه إزاء القوى الكبرى سواء أكانت تلك القوى آلهة، أو دولا أو أنظمة اجتماعية. هو عالم الإنسان المعزول، الوحيد، الذي سلب إمكانية المواجهة، أو سلب الايمان بإمكانية المواجهة. سنرى ذلك في قصة "إريام" التي يفتتح بها أمير زكي المجموعة، ويلجأ فيها امير لأساطير الخلق الأولى حين خلق الإله إريام العالم والأرض والسماء ثم خلق عماد الإنسان ومن بعده رحمة زوجة له، وينتهي أمير من كل ذلك إلى شعور عماد بوحدته من دون إله، أو امرأة، ليذكّرنا بالحقيقة القاسية، بأن الإنسان ولد وحيدا ويعيش وحيدا ويموت وحيدا. هذه الحقيقة تصل إلى القارئ عبر سرد ممتع وأحداث صغيرة وحوارات ممتعة بين عماد والإله إريام. هنا يجد أمير طريقة أخرى لكتابة القصة، قد لا يكون اللجوء للأساطير اكتشافا، لكن الاعتماد عليه في بناء قصة قصيرة قليل في تجربة القصة المصرية. في قصته الثانية "السيد يحتضر" يعود أمير إلى الموضوع ذاته، علاقة الإنسان بالرب، بالسيد الكبير، واكتشاف الإنسان لموت السيد، ووحدته بعد ذلك. بشكل غير مباشر تطرح هاتان القصتان همَّاً محدّداً لدى الكاتب: هل يستطيع الإنسان أن يحيا من دون فكرة مقدسة؟ كيف يمكن له أن يواجه حقيقة أنه وحده، وأنه بلا إله؟ أي أن وجوده عشوائي وبلا مغزى؟.

في قصته الثالثة "السيدة الأولى" يعود أمير للموضوع ذاته إلى مشروع "قصة الخلق"، ومجدّدا يشير إلى فشل تلك العملية وارتطامها بأبواب مسدودة، حين تتولّى السيدة الأولى رعاية مشروع لتزواج الخنافس، يكشف عن مشروع آخر مجاور هو تزاوج الشباب، لكن المشروع ينهار. أي مشروع؟ تزاوج الخنافس أم حياة البشر؟.

القصة الرابعة "أول تجربة" يعود أمير إلى وحدة الإنسان التي طرحها في "إريام" وحدته واستحالة أن يصادف الحب. إنه يتوهّمه فقط، ثم يصطدم بأن من عشقها مجرد فتاة مختلة قد تقوده فقط للمشكلات. وحتى عندما يعجب شاب بفتاة في قصته الرابعة "ثلاثة كتب" فإن الإعجاب لا يتجسّد في علاقة واقعية، لأن الموت يختطف منه الفتاة. في قصته الخامسة "المريض الأبدي" تحلّ السلطة محلَّ الإله، وتحلّ العلاقة بين الفرد والسلطة محلَّ العلاقة بين الإنسان والخالق، ومجدّدا يتّضح أن الإنسان عاجز وضعيف في مواجهة القوى الكبرى سواء أكانت الآلهة أم الدولة.

في قصة "في المدينة البعيدة" وهي واحدة من أفضل قصص المجموعة سنجد موظفا شابا يحمل رسالة من رئيسه في العمل إلى مدير فرع الشركة بمدينة بعيدة، لكنه غير واثق من صحة العنوان، وحينما يصل ويسلّم الرسالة للمدير يقول له الأخير: "هي رسالة بعزلي من منصبي". ثم يغادر الموظف الشاب المكان ليكتشف أنه ضلّ الطريق وأنه وحده في صحراء مترامية الأطراف. لقد كان العنوان ملتبسا في البداية، وأصبح العنوان في النهاية هو الخلاء. كأن أمير يريد أن يقول: ما من شيء لنتجه إليه، وما من شيء لننتهي عنده. هذا المعنى ذاته السعي نحو المجهول هو مغزى القصة المسماة "مجهول" والتي تتألف من صفحة واحدة. انتظار ما لا يأتي، ما لا يحدث، سواء أكان الجنة الموعودة، أو الحب، أو الدفء الإنساني سنجد هذه التيمة ذاتها في قصة "لاكي" حيث يتداخل الواقع والوهم، والخوف من انتهاء العرض المسمى حياة الإنسان القصيرة. وسأكتفي بهذا العرض. سنلاحظ أنه خلال ذلك اليأس والشعور بعدم الجدوى، فإن الإنسان، عندما يحاول تخطي تلك الحالة كما في قصة "أول تجربة" حين يقْدم شاب على علاقة مع فتاة، فإنه يصطدم بعد العلاقة بأنها مجنونة، وأيضا حين يصبح البطل فاعلا كما في قصة "ثلاثة كتب" فإنه يصطدم بموت محبوبته. في هاتين القصتين وحدهما كان البطل فاعلا، إيجابيا، لكنه يرتطم بالنتيجة ذاتها التي يرتطم بها وهو سلبيٌّ ومقيّدٌ وعاجزٌ ومسلوبُ الإرادة  في مواجهة القوى الكبرى.  

 

-3-

لغة أمير زكي موجزة، متحرّرة تماما من كل جماليات اللغة العربية التقليدية، لغة أقرب إلى التقريرية والبساطة التي تصب في المعنى مباشرة، وتنزلق أحيانا إلى الخشونة – انظر مثلا وصف المرأة في قصته "إريام"، المهم عند الكاتب أن تؤدي اللغة دورها أي إيصال المعنى. أما عن الشكل فإن جدته لا تنبع من الشكل ذاته بل من المضمون الذي يقدمه أمير زكي، من صورة الإنسان الوحيد العاجز في مواجهة سلطة الكون والمجتمع والدولة. وعندما تقرأ هذه المجموعة الجميلة ستشعر أنك تقرأ صوتا خاصا، لا يقلد أحدا، لا يشبه أحدا، إنه صوت مميز من أعماق الكاتب، لا علاقة له بالتراث المكتوب، لكنه صوت هذا الكاتب وحده.

ننتظر الكثير والكثير من أمير زكي، ونثق أنه سيحقق كل الآمال المعقودة عليه كاتبا وإنسانا.

11 مارس 2015    

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.