3

:: يوريكا..! – قصة قصيرة ::

   
 

التاريخ : 08/04/2015

الكاتب : حسين مهنّا   عدد القراءات : 1792

 


 

 

 

 هيَ جَميلةٌ.. واثِقَةٌ من جَمالِها.. هيَ واعِيةٌ.. فَخورَةٌ بِوَعْيِها.. مُتَعَلِّمَةٌ زادَها العِلْمُ جَمالاً ووَعْيَاً.. لكِنَّها تُحِسُّ أَنَّ زاويةً ما مُظْلِمَةً في صدْرِها.. لَعَلَّ حِواراتِها مَعَ نَفْسِها هي السَّبَبُ! حِواراتٌ قاسِيَةٌ الى حَدِّ جَلْدِ الذَاتِ أَحياناً... تُعيدُ حِساباتِها مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ... جَميلَةٌ.. مُتَعَلِّمَةٌ.. تَقودُ سَيّارَتَها لِوَحْدِها الى عَمَلِها.. وهُناكَ في عَمَلِها تَخْتَلِطُ بِعامِلينَ وعامِلاتٍ طَوالَ ساعاتِ عَمَلِها.. إذَاً، هي ليسَتْ قَعيدَةً، ولكنَّ تِلكَ الزّاوِيَةَ المُظْلِمَةَ في صَدْرِها تَزْدادُ ظَلامَاً.

 لَعَلَّ وَعْيَها هو السَّبَبُ في أَنْ تَعيشَ في قَلَقٍ دائِمٍ.. قَلَقِ الّتي تَكْفُرُ بِحَياةٍ ثَلاثَةُ أَرباعِها "نَعَمْ" والرُّبْعُ المُتَبَقّي تَرَدُّدٌ بينَ "لا" وبَينَ "نَعَمْ".. زَفَرَتْ زَفْرَةً حارَّةً لم تَسْتَطِعْ تَحْديدَ مَصْدَرِها.. أَهُوَ الغَضَبُ؟ أَهوَ القَرَفُ؟ أَو لَعَلَّهُ ضَعْفُ حَوّاءَ المُتَوارثُ جيلاً عن جيلٍ يَطْحَنُ الفَتاةَ وُجوبَاً ومَجازاً...!

 وهَمَسَتْ الى ذاتِها: هلْ أَنا حُرَّةٌ؟! وجاءَ سُؤالُها كَآهَةِ مَريضٍ أَعْياهُ مَرَضٌ عُضالٌ.. مُنْذُ صِغَرِها تَرى حُرِّيَّةَ أَخيها تَخْتَلِفُ عن حُرِّيَّتِها.. حرِيَّةُ طائِر طَليقٍ تَخْتَلِفُ عن حُرِّيَّةِ طائِرٍ مَشْدودٍ من ساقِهِ بِخَيْطٍ مَهْما امْتَدَّ الخَيْطُ وطالَ..!

 نِساءُ القَرْيَةِ يُجْمِعْنَ على أَنَّ فَتاةَ اليومِ تَعيشُ في مَهْدِ عيسى لا كَما عِشْنَ هُنِّ، تَبْتَسِمُ لِهذِهِ المُقارَنَةِ السّاذَجَةِ.. أَلَيسَ منَ العَدْلِ أَنْ تُجْرى المُقارَنَةُ مَعَ ما سَيَأْتي، لا مَعَ ما قد مَضى! ثَمَّ ما شَكْلُ الحَياةِ في مَهْدِ عيسى هذا؟ وإذا كانَ المَقْصودُ المَسيحَ عليهِ السَّلامُ فَقَدْ قَضى حَياتَهُ شَقاءً في شَقاءٍ.. وأَيُّ مَهْدٍ هذا الّذي تَعيشُ فيهَ فَتاةُ اليومِ وهي المُذْنِبَةُ في مَحْكَمَةٍ بِدونِ دِفاعٍ، أَو سَماعِ أَقوالِ شُهودٍ، فَتُذْبَحُ كَما يُذْبَحُ خَروفُ العيد!!.... وتَعودُ لِتَسْأَلَ نَفْسَها.. هلْ أَنا حُرَّةٌ؟! هلْ خُروجُها منَ البَيتِ الى الجامِعَةِ، أَو الى العَمَلِ حُرِّيَّةٌ؟! وهَلْ قِيادَتُها السَّيّارَةَ لِوَحْدِها حُرِّيَّةٌ؟! ولِتَكونَ صادِقَةً معَ نَفْسِها أَمامَ حَقيقَةٍ فَرَضَتْها الحَياةُ فَرْضَاً تقولُ نَعَم.. ولكِنْ بِوَعْيِها الَّذي يَتَّسِعُ ويَتَعَمَّقُ يَوماً بَعْدَ يومٍ تَرى حُرِّيَّتَها مَنْقوصَةً.. إنَّها لا تَزالُ تَذْكُرُ ما أَخَذَتْهُ عن الكاتِبِ المِصْري المُحَبَّبِ لَدَيها (سَلامَة موسى) بِأَنَّ الفَتاةَ لا تَنْعَمُ بِحُرِّيَّتِها إلّا إذا أَصْبَحَتْ مُنْتِجَةً.. وها هي تَعْمَلُ ولا تُحِسُّ بِأَنَّها حُرَّةٌ! وتَمَنَّتْ لو كانَتْ فَراشَةً كَهذِهِ الّتي تَمُرُّ أَمامَها، لَها ذاكَ الفَضاءُ الرَّحبُ، تَلْهو كَيفَما تَشاءُ وتَحُطُّ حَيثُما تَشاءُ.. أُمْنِيَّةٌ غَريبَةٌ صَعْبَةُ المَنالِ أَكَّدَتْ لَها أَنَّها تَعيشُ معَ آدَمَ جارِيَةً تَخْدِمُهُ أَوَّلاً، ووِعاءً يُنْتِجُ لَهُ نَسْلاً!!

 كانَتْ كُلَّما أَخَذَها تَفْكيرُها الى أَبْعَدَ كُلَّما اقْتَرَبَتْ فَظاعَةُ الصّورَةِ الّتي ارْتَسَمَتْ في خيالِها أَكْثَرَ.. يا أَللّه!! الى مَتى تَظَلُّ حَوَّاءُ تُؤْكَلُ ويَجِدونَ لِآكِلِها عُذْرَاً؟!.. الى مَتى تَظَلُّ تَشُمُّ رائِحَةَ الحُرّيَّةِ الَّتي يَتَحَدَّثونَ عَنْها من بَعيد؟!... قاَلَ لَهُ أَبوهُ: كُرَّ يا عَنتَرة! فَقالَ: العَبْدُ لا يُحْسِنُ الكَرَّ بَلْ يُحْسِنُ الحِلابَ والصَّر..، فَقالَ: كُرَّ وَأَنْتَ حُرّ!!... ولكِنَّ المَهاتما غانْدي لَمْ يَكُرَّ بَلْ كَرُّوا هُمْ عَلَيْهِ،وانْتَزَعَ حُرَّيَّتَهُ انْتِزاعَاً!! وأَنْتِ على مَنْ سوفَ تَكُرِّينَ؟ وإنْ لَمْ تَكُرِّي فَمَنْ يَكُرُّ عَلَيْكِ؟ هَلِ النّاسُ رِجالاً ونِساءً أَم التّأريخُ.. أَمْ أَنْتِ نَفْسُكِ تَكُرّينَ على نَفْسِكِ؟! ولِلَحْظَةٍ قَرَّرَتْ أَنْ تَخْرُجَ من دائِرَةِ مُصارَعَةِ (السّومو) بِإرادَتِها، مُنْتَصِرَةً على تَرَدُّدِها.. سَتَكونُ مُضْغَةً في أَفْواهٍ لا تَرْحَمُ.. أَو رُبَّما سَتَكونُ عُنُقَاً تَحْتَ سِكّينٍ! لا يَهُمُّ ما دامَتْ تُؤْمِنُ بِوُضوحِ دَرْبِها وسَلامَةِ خُطُواتِها..

 غَدَاً سَتَلْتَقي شابَّاً ظَريفَاً تَعَرَّفَتْ عَلَيهِ مُؤَخَّراً وأَحَبَّتْهُ.. ولكِنَّها الآنَ وبَعْدَ رِحْلَتِها لِاسْتِكْشافِ ذاتِها وَجَدَتْ أَنَّها تَعْتَقِدُ أَنَّها تُحِبُّهُ.. وفَطِنَتْ فَجْأَةً بِأَنَّ طَلَباتِهَ خِلالَ تَعارُفِهما كانَتْ مُسْتَجابَةً.. كانَتْ تَفْعَلُ ذلكَ بِتِلْقائِيَّةٍ، حَتّى عِنْدَما كانَ لا يُلَبّي لَها الكَثيرَ من طَلَباتِها لم تَكُنْ تَظُنُّ بهِ ظِنَّ السّوءِ.. رَفَعَتْ سَمَّاعَةَ التِّلِفون.. اعْتَذَرَتْ لهُ عن لِقاءِ الغَدِ، وعَن أَيِّ لِقاءٍ بَعْدَ ذلكَ.. أَحَسَّتْ أَنَّ حَبْلَها السُّرِّيَّ يُقَصُّ لِلْمَرَّةِ الثّانِيةِ، وأَنَّها لِأَوَّلِ مَرَّةٍ تَتَنَفَّسُ من رئَتَيها هي.. وخُيِّلَ لَها أَنَّها تَهْتِفُ يوريكا... يوريكا!

 

(ديسمبر 2014)

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.