3

:: غزالة ::

   
 

التاريخ : 24/01/2017

الكاتب : أحمد حسين حسن   عدد القراءات : 569

 


 

 

إذا كان كثيرٌ من العرب يلفظون حرف الضاد ظاءً، مع أنّ لغتهم تسمّى لغة الضاد، فإنّ صاحبنا يطيب له أن ينادي زوجته {أم خدر}، وكذلك اعتادت هي أن تناديه {أبو خدر}، ولا ندري إن كانت قد اعتادت على لفظ الاسم من خلال العشرة المشتركة التي طالت كثيراً بينهماً، أم أن الله منحهم نفس الموهبة. وهكذا أصبح يحلو لأغلب الناس في قريتنا أن ينادوهم بنفس الطريقة.

وأم خضر هذه كركمة بكل ما تتضمن هذه الكلمة من معاني، كانت سمراء اللون في حوالي الستين من عمرها، لكن ما من أحدٍ يراها إلا ويحسبها أكبر من ذلك بكثير، فقد حفر الدهر في وجهها أثلاماً كانت تزداد عمقاً كلَّ يوم فيزداد لونُ وجهها اسمراراً مما يجعله أقربَ إلى السواد، عندما تمعن فيه النظر تحسبه أرضاً جافة لم ترتوِ من زمن.

أما عن زوجها فاسمه الحقيقي كنجو، ويطلق عليه الناس كنجو النوري. كان في حوالي الخمسين من عمره، كانت عيناه مغمضتين ودامعتين، لذلك كان عليه أن يمسحهما باستمرار، كما كان عليه أن يبذل كثيراً من الجهد ليشق لإحداهما على الأقل فتحة صغيرة تساعده على أن يرى ما أمامه ولو بشكلِ محدود، ومع كل هذه السوءات، كان يبدو فتياَ مقارنة مع زوجته، ولمن لا يعرفهما يظنها أمه.

لم يعرف الناسُ لهما ابناً اسمه خضر، ولكن لغط الناس يوحي بأنه موجود، بل وأنَّه حيٌّ يُرزق. ويهمِس بعضهم أنّ خضراً هذا هو ابنها من زوجها، أو أنّه ابنُ زوجها القديم الذي كان شيخا للنور، وأنّه في مثل عمر كنجو النوري. ولأنّ الناس يمضون شتاءً طويلاً بدون عمل، كان يحلو لخيالهم أن يسرح بعيداً، فيقول بعضهم إنّ أمَّ خضر كانت في مثل عمر بنات زوجها المختار، وبعد أن يئست منه كرجل، تآمرت على قتله مع كنجو النَّوري الذي سلمته المخترة، وزاد آخرون أنّ بقاءهما في القرية ليس حبا في الاستقرار أو كراهية لحياة الترحال، وإنما هرباً من بطش خضر الذي يقيم في مكان آخر، بل ويمارس عمله هناك شيخاً للنور، ويُعِدُّ العدة ويتحين الفرصة للثأر لأبيه.

غير أنّ ما يبدو أقرب إلى الحقيقة، أنّ أم خضر واسمها الحقيقي فطيم كانت صبية جميلة، وكان زوجها في مثل ضعف عمرها كما اتفق على ذلك الجميع، وحيث أنه لم يكن لهما ولد، فقد تربى كنجو الذي كان يتيماً في كنفهما، كما كان يقوم على خدمتهما، ولاسيما على العناية بالمختار الذي أكل الزمن كل قواه، كان يحبه كثيراَ، لذلك كان يوصي أم خضر وهو يرى الموت يتسلل إلى جسمه، أن تحضن كنجو عندما يأخذ صاحب الأمانة أمانته، وقد حفظت أم خضر الوصية و نفذتها لكنّها فضلت أن تحضنه كزوج وليس كابن، واختصاراً للحديث نقول إن أم خضر وكنجو النَّوري حافظا على صمتهما فبقي السِّرُ في بئرٍ عميق.

استوطن كنجو النَّوري وزوجته القريةَ بشكل دائم، فسكنا في أول الأمر في بيت من الشَعْر نصبه في أطراف البلدة من الشمال قريباً من البيادر والكروم، لكنْ وقد آلمه البرد التمس الرحمة، فاستجاب له الناس الذين أحبوه كثيراً، فسكن في بيتٍ غيرٍ مستخدم لواحد من هؤلاء محبّي الكيف والسهرات المِلاح.

كانت أم خضر مختارةً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، لم يسمعها أحد تُغني، كما أنَّ شخصاً ما لم يقل أنه رآها وهي ترقص، كانت تلبس ملابسَ محتشمة، وتجلس في الأفراح مع النساء المسنَّات كواحدة من عليَّةِ القوم، كما أنها كانت قلّما تتكلم، فلم تكن تُحب أن تفتح شفاهها إلا إلى مبسم الأركيلة، ومع ذلك فقد كانت تجيب على مالا تجد فيه حرجاً من الأسئلة، و تقف عن الكلام عندما يتعلق الأمر بسرٍّ تحتفظ به لنفسها أو مع صاحبنا.

أصبح كنجو النَّوري جزءاً من حياة القرية، فكان وزوجته يستقبلان الزوار في بيتهما حيث يحمل هؤلاء معهم ما تسمح به إمكاناتهم أو لنقل أنفسهم، ولم يكن الزائر يطمح بأكثر من فنجان من القهوة المرة، وبيت من العتابا يغنيه أبو خضر وهو متكئٌ على وسادة عالية محشوة بالقش، ومع ذلك لم يحدث أبدا أن أقاموا سهرات رقص في مسكنهما.

لكن كنجو النَّوري كان يشارك في مواسم الأفراح مع النَور الذين يفدون إلى القرية صيفا، وللأمانة فإن مشاركته في الأفراح والمناسبات كانت رمزية، ترفع معنويات النور المشاركين، وتجعل حصته من مردود الحفل كسبا مشروعا، وقتها كان أبو خضر يصبح شيخاً كاملاً مكملاً، فإن إحياء النوَر لأي حفل يجب أن يتم بإذن منه، كما أنه كان يشارك بالعزف على الربابة وغناء بعض أبيات من العتابا.

كان أبو خضر يغيب عن البلدة حيناً وحدهُ، وأحياناً مع زوجته لبعض الوقت لكنه سرعان ما يعود كما ذهب، في هذه المرة عاد ومعه فتاةٌ طويلةُ القامة، نحيلةُ الخصر جميلةُ الوجه ذاتُ عينين فرعونيتين واسعتين وفمٍ عريض، كانت تلبس فستانا طويلا يضيق كثيراً عند الخصر، ويتسعُ كلما انحدر إلى الأسفل، وتضع على رأسها شالاً ينحسر عن مساحةٍ واسعة من شعرها الأسودِ الفاحم الذي يتبعثر على ظهرها وكتفيها.

عندما حلّت غزالةُ في البلدة وهذا هو اسمها، بدأت ألسنة الناس في نشر الإشاعات،فمن قائل إنها بنت زوجته وقد لاحظوا كيف تعطف عليها كثيراً بل وتدللها، ومنهم من قال إنها زوجتُه، ويؤكدون أن الزواج تم بمعرفة أم خضر وموافقتها، ويزيد آخرون أنها هي التي اقترحت الزواج على أبي خضر، واختارت العروس التي هي قريبتُها، أما الذين يحلو لهم أن يُسيئوا الظنَّ حول أي أمر فيه شيءٌ من الغموض، ومما جادت به قريحتُهم أنَّ كنجو النَّوري لايحتاج زوجة أخرى، فهو ليس فقط لا ينجب أولاداً، بل لا ينفع النساء أبداً فهل هو بحاجة لزوجتين.

كان أبو خضر وزوجته وغزالة يسمعون كثيراً من هذه الأقاويل، لاسيما تلك التي استجدت بعد قدوم غزالة، وحيث أنهم اعتادوا على سماع الإشاعات باستمرار، لم يرَ أيٌّ منهم ضرورةً للرد على أي منها، وعندما يتطفل أحدهم ويسأل أم خضر عن غزالة كانت تقول : الناس بحاجة إلى أمر تتسلى به.

وإذا كان الناس غير متأكدين من شيء مما قيل وأنهم يتسلون على حد تعبير أم خضر، فهم متأكدون على الأقل من أن غزالة فتاةٌ شابة جميلة جداً، وهم بانتظارها تحيي أفراحهم وترقص كما لم يرقص أحد من قبل كما وعدهم أبو خضر.

ترك النصفُ الثاني من الصيفِ وراءه موسمَ أغلب المحاصيل، وأتى يصطحب معه موسم الأعراس، وحيث أن الناس على عجلة من أمرهم، فقد سارعوا إلى حضور أول عرس.

الشمس التي اختفت وراء رابية القاموع، لملمت خيوطها وأفسحت المجال أمام القمر كي ينثر نوره الأبيض الهادئ، بينما لفحاتٌ من الحر كانت تتسرب إلى أرض الدار الواسعة والتي فرشت حديثاً بالإسمنت، الذي كان نادر الوجود في ذلك الوقت.

صُفت الكراسي في أحد جوانب الساحة وفُرشت الجهاتُ الأخرى بالسجاد والبسط،وتُرك مكانٌ لائق للعريس والعروس.

عندما وصل أبو خضر وزوجته مع غزالة كان والدُ العريس الذي تأنق بملابسه الجديدة حيث يرتدي قمبازاً وجاكيتاً كحليَّيْن من الجوخ، يستقبل القادمين ويقودهم إلى الأماكن الملائمة، ولكلٍّ حسب مقامه.

أهلَّ كثيراً ورحب بالثلاثة، وقال: فاتحة خير إن شاء الله يا أبو خضر، نحن بانتظار ما وعدتنا به، وقد التفت نحو غزالة، ابتسمت غزالة ابتسامةً خجولة، واقتربت أكثرَ من أبي خضر كأنها تحتمي به من النظرات الثاقبة التي بدأت تأكلها.

جلست أم خضر بين النساء المسِنّات على بساط أحمر، وقد ترّبعت وغطّت رجليها بفستانها الأسودِ الطويل، وبدون أي انتظار قُدِّمت لها القهوةُ المرة، وعُمِّرت أركيلتُها التي بدأت جمراتها تتوهّج وتقرقر كصوت خرار الشُغري على حدِّ تعبير أبو توفيق مالك الدار التي يسكنونها.

بينما جلس كنجو إلى جانب شاب يضع على ركبتيه دربكةً مزركشة، وقد رُسمت على مقدمتها صورةُ عنترة وهو يحمل بيده اليمنى سيفاً وبالأخرى ترساً.

أسند كنجو النَّوري ربابته إلى الأرض ونقر على وترها بإصبَعه كمن يضرب على العود إشارة معتادة إلى حضوره، بينما جلست غزالة إلى جانبه الآخر، في نفس الوقت أخذ ضارب الدربكة يفركها بنشاطٍ بباطن يده.

اكتمل أغلب المدعويين وحضر من غير المدعوين كمٌّ كثيرٌ من الناس، فلم يكن حضور الأعراس مقتصراً على المدعويين فقط، بل يأتي بشكل طبيعي ومعتاد أكثرُ أبناء القرية، لاسيما الشباب والشابات منهم.

نقر الشابُّ على الدربكة، وغنّى بعض الموجودين أغانيَ محليةً، ورقص أقاربُ العريس وأترابُه استهلالاً للحفل وترحيباً بالضيوف، كما شارك في الرقص والغناء كثيرٌ من الشباب والشابات، وقد حميت السهرة على حدِّ تعبير الناس.

وقف والد العريس وسط الساحة، رحّب بالجميع متمنياً لهم وفي بيوتهم الأفراح الدائمة ثم التفت إلى كنجو وقال: "إيه يا أبو خضر نحن بانتظارك".

أسند كنجو النَّوري ربابته ذات الوتر الواحد والمصنوعة من جلد الماعز إلى الأرض، وقد أمسك عنقها ووترها باليد اليسرى، وأخرج من جيبه قطعة من الشمع مسَّد بها الوترَ والقوسَ المصنوعَ من شعر ذيل الفرس، وبدأ يُقسّم ويدوزن ربابته.

كان يطيل في هذا العمل حتى يلفت الانتباه إليه أكثر، مع أنه ليس بحاجة إلى مثل ذلك، فقد كان عازفاً متميزاً على الربابة، قسّمَ وقسّم وتأوّه الناسُ، ثم بدأ يغني العتابا بأبيات يحيِّي فيها والدَ العريس ومن ثمَّ العريس وأقاربه، وغنت غزالة عتابا أيضاً وقد لوت عنقها على يدها اليمنى فيما كانت أم خضر تسحب نفس أركيلتها وقد تكوّمت بين النساء.

نقر ضارب الدربكّة عليها بقوةٍ وانفعال، فنهره أبو خضر وبإشارة متعارف عليها طلب منه أن يضرب بهدوء.

وقفت غزالة في وسط الساحة، كانت غزالة ترتدي فستانا طويلا أخضر اللون، تبعثر عليه كَمٌّ كبيرٌ من الورودِ والأزاهير حتى بدا كأنه حديقة، كان ضيقاً من الأعلى خاصة عند خصرها، بينما يتَّسع في الأسفل كثيراً فيبدو على شكل طيات وقد غطى قدميها، كانت تضع على رأسها شالاً شفافاً مقصّباً وموشىً بخيوط ذهبية وفضية، وقد انحسر عن القسم الأكبر من شعرها الأسود الفاحم، فيما بدت عيناها أكثر اتساعا بفعل المبالغة في تكحيلهما.

وضعت الصنجات كالمعتاد في أصابعها، ونقرت بها وهي واقفة في مكانها عدة مرات، ثم قفزت إلى الوسط كغزالة حقيقية.

كانت المرة الأولى التي ترقص فيها غزالة أمام أهل البلدة، فلاحقوها بعيونهم أينما قفزت لاسيما الشباب والفتيات اللاتي كن يظهرن في أجمل زينة حيث يرتدين الشالات الموشّات بالخرز والملابس الجديدة وقد حاولت كل واحدة منهنَّ أن تُظهر أكثر ما يمكن من مفاتنها، بل وأن تكشفَ عن اليسير من ساقيها وزنديها وصدرها الغضّ بحجّة التّحايل على الحرّ.

أخذت غزالة تتلوَّى بخصرها المشدود كثعبان، وترفع يديها حيث ينحسر كمّاها عن زنديين برونزيين متناسقين.

كانت غزالة جميلة وكان ضوءُ القمر والأضواءُ البترولية التي علقت على جدران الساحة تزيد جمالَها إثارةً، كانت ترقص وتشارك كنجو في الغناء، تركع على ركبتيها في الساحة، وتلوي جسمها إلى الخلف ورأسها إلى الأسفل، وتدور بجسدها الغض فيزداد الناس سروراً ويصفقون لها بإعجاب، كثُر الشوباش وزاد الاصطهاج، وغزالة تكرج كالحجلة في الفسحة الواسعة وهي تجر ثوبها الطويل الفضفاض.

انحسر الشال عن رأسها أكثر، وتعرّقت والتصقت خصلاتٌ من شعرها الليلي على رقبتها الطويلة، وركعت على الأرض لوت رأسها إلى الخلف، فاتّجه وجهُها إلى الأعلى وقابل وجه القمر الذي بدا خيالاً له في مرآة.

في وسط هذا الزحام وبين تصفيق الجماهير وهياجهم، وقف عدنان عبد العال وقد أمسك بيده خمسين ليرة ووضعها في صدر غزالة، أمسك بخدي غزالة من الخلف وانتزع من فمها قبلة تعمقت وطالت كثيراً.

قفزت غزالة كمن مسّها شيطان، وتابعت الرقص كأن شيئاً لم يكن لكنَّ حيويَّتها همدت، ورونقها تلاشى، ووجهها قد أصبح باهتاً كالحاً باهتاً، بينما أصبحت حركاتها مفتعلة، همهم الناس بكلام غير مفهوم، اختلط فيه الحابل بالنابل، وقد أصابهم شيءٌ من الذهول، بمن فيهم صاحب العرس فلم يتصرف أحدهم بشيء.

أخذت غزالة ترقص كمن تندب، وقد بدا الاستياء على وجوه الجميع، لاسيما على والد العريس، الذي فاجأه الموقف فلم يعرف ماذا يفعل.

تحدث معها كنجو النَّوري بكلام غير مفهوم، فجلست على الأرض، وقفز كنجو إلى وسط الساحة، وقد شمَّر طرفي قمبازه ووضعهما في كماره، وسحب خنجراً من جنبه وأوعز إلى ضارب الدربكة أن يضرب.

بدأ يرقص بهدوء مفتعل، ويتغمّى، على حد تعبير أهل القرية، دُهش الناس كثيراً فهي المرة الأولى التي يرقص فيها كنجو النوري، وليس من عادة النَّوَر أن يرقص رجالهم، نقر ضارب الدربكة بقوة أكثر، وغنّت غزالة بصوت عالٍ ولكنه بدا مبحوحا، أخذت رقصة كنجو النَّوري تبدو عصبية، ظهر سروالُه الأسود الواسع من الأعلى، واهتزَّ ذيلُ قمبازه، حرك الخنجر بيده اليمنى واضعاً يده اليسرى خلف ظهره.

تعثر مراراً في أول الأمر، ولكنه بدأ يرقص بانفعال، ويقفز كجدي في أرجاء الساحة، صفق الجميع بعفوية، حيارى مما يحدث، وأمعن أبو خضر ليس في الرقص فقط، بل في التحدي، ازداد لهاثه ودمعت عيناه أكثر، وسقطت قطراتُ ماءٍ من أنفه لكنه استمر في الرقص، بدا في الحلقة ضحلاً أكثرَ، ومحزنا أكثر،كان يثير الشفقة أكثر مما يثير الإعجاب، وبحركة بهلوانية مفتعلة قفز إلى الأمام أمسك الورقة ذات الخمسين ليرة ووضعها في صدر زوجة عدنان عبد العال، وانتزع من فمها قبلة طويلة طويلة أكثر لكنَّها كانت مُرَّة.

امتلأ وجه الزوجة المتأنقة، بقطرات الماء التي سالت من عيني كنجو وأنفه، فتلخبط مكياجها واحمرَّ ت وجنتاها، وأخذت تمسح ما رسمتْ القبلةُ عليهما، فبدا المنظر لوحةً سوريالية.

وقف الجميع وقد ذهلوا فصفقوا للمفاجأة بشكل عفوي، زادت همهمةُ الناس وضجيجهم، استمر كنجو النَّوري في الرقص وقفز إلى الأعلى أكثر، بدا التعب واضحاً عليه، لكنه اجتهد أن يستمر، تصبَّبَ العرق من كل مسام جلده، دمعت عيناه أكثر والتصقت جفونه ببعضها.

لم يترك مجالا أمام الناس للحديث عن المفاجأة، فقد سقط على الأرض مغشيِّاً عليه، وتوقف العرس وتسرب الناس إلى بيوتهم صامتين وقد لجمهم ما جرى.

في اليوم التالي لم يرَ أحدٌ كنجو النَّوري في القرية، كما أنهم قد وجدوا بيته خالياً.

أفسح الأمرُ المجالَ لخيال الناس لابتكار الإشاعات، فمنهم من قال إن أبا خضر قد مات، وأتى رَبعُه وأخذوه لدفنه في مضاربهم، ومنهم من قال إن عدنان عبد العال طلب منه الرحيل فوراً عن البلدة، وإلا فإنَّ مصيرَه سيكون الموت، ومنهم من قال إن كنجو النَّوري فضَّل الرحيل عن البلدة خوفاً من عواقب الليلة الماضية، غاب كنجو النَّوري ومرت سنواتٌ ولم يغب عن ذاكرة الناس وأحاديثهم ما جرى تلك الليلة، فالناس في قريتنا يلوكون الحادثة باستمرار، لذلك فإنَّها لا تنسى.

بعد عدة سنوات وقد وصل التيار الكهربائي إلى البلدة أقام عدنان عبد العال عرساً لابنه نصب السّرادق، وقام عثمان الكردي وعبد الشيخ بإنارته بأضواء تبهر الأبصار، التمَّ الناس وتوزعوا على أماكنهم، وسط أبهة تعبر عن الوضع المادي المتميز لعدنان عبد العال، وعن التطور الذي دخل البلدة.

كان عدنان عبد العال يتجول بين الحضور مؤهلا، ويستقبل القادمين كما جرت العادة.

كانت أبّهة السّرادق تلفت أنظار الجميع، فيما كان عدنان عبد العال يتجه نحو باب السّرادق على عجل بعد أن همس في أذنه قريبٌ له بشيء ما.

دخل عدنان عبد العال وقد أمسك بيده اليمنى كنجو النَّوري وبيده اليسرى غزالة، ذُهل الجميع ولكنَّ ربابة كنجو النَّوري لم تترك لهم المجال للتفكير فقد بدأ العرس، وأحيا كنجو النَّوري وغزالة ليلة من ليالي العمر.

في اليوم التالي بدأت التساؤلات، لماذا غاب كنجو النوري، أين بقي كلَّ هذه المدة، ولماذا أتى به عدنان عبد العال ليحيي عرس ابنه البكر، ولماذا لم تحضر أم خضر، كل هذه الأمور، فسحت المجال أمام الناس كي يبتدعوا إشاعات جديدة عن كنجو النوري، هذا اللغز الذي لازالت البلدة تتحدث عنه بل إنَّ خيال الناس وامتداد الزمن، سيعملان على خلق أحداث وابتداع حكايات عن كنجو النَّوري تتوالد باستمرار.

سوريا - ديرعطية

  

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.