3

:: يموت بحسرته... ::

   
 

التاريخ : 04/03/2017

الكاتب : نبيل عودة   عدد القراءات : 1343

 



الصمت حول سرير المريض سعيد كان ثقيلا. يدخلون ويخرجون بصمت.. "هسّ.. هسّ، سعيد وضعه صعب". من المتوقع ان يلفظ انفاسه الأخيرة. لم يعد له علاج ملائم في المستشقى، فقط الأدوية لتسكين الأوجاع حتى قرار الله بعبده سعيد.

لم يكن سعيد من الذين أسعدهم الله بحياة زوجية هادئة. تزوج وطلق ثلاث مرات، رزق بأربعة صبيان من الزوجات الثلاث.. حتى اولاده لم يتحملوا فجوره وغادروا الى غير رجعة. بعد طلاق الزوجة الأخيرة وقع في حفرة تعدُّ للصرف الصحي، فأصيب اصابات بالغة برأسه وأعضائه الداخلية ويقال انه كان يلاحق احدى نساء القرية قريبا من بستان للزيتون في اطراف القرية.

سكان البلدة يتحاشون الاختلاط به، سيرته سيئة، شراسته أخرست الألسن. ليس سرّا ان سعيدا منذ شبابه لم يترك فتاة تفرّ من شره في القرية، فضائحه الأخلاقية تجاوزت الى البلدات المجاورة وعلى ذمّة الرّواة ان بعض حوادث قتل النساء بحجّة شرف العائلة كانت بسبب ما ارتكبه سعيد بحقهن.

 - هل أسلم الروح؟

- هس.. هس.. ما زال يتحرك.

الأقرباء بهمس وبشعور من الضيق يترقبون انتهاء ساعاته الأخيرة، وكانهم ينتظرون الفرج.

- لم يحضر احد من اولاده..؟

- هربوا من سوء تعامله... اين نجدهم؟

ليسامحه الله.

- ربما هناك ضرورة إستدعاء ابينا الخوري ليناوله قبل موته.

- هل ذلك سيكون سببا لخلاصه من عذابه؟

- قال الطبيب لن يصمد حتى العصر..

- قرار الموت بيد الرب وليس بيد الأطباء..

- قدم قهوة يا بني.. وأحضر الماء البارد.. وخفضوا اصواتكم يا جماعة.

- لماذا لم يحضر الخوري ليناوله، لعلّ ذلك يختصر عذابه؟

فهم الأهل ان ذلك هو خلاصهم هم من الترقب الذي يبدو انه قد طال. اضاف أحدهم:

- لا بد ان يناوله الخوري لعلّ ذلك ينقذ روحه من عذاب جهنم.

 رد عليه أحدهم:

 - والله لو تضافرت جهود بابا روما وبطاركة اليونان وروسيا، لما انقذوا ظفرا منه لما ارتكبه بحق الناس من موبقات.

القصد من ذلك فضائحه الأخلاقية مع نساء القرية وشراسته التي جعلت العباد يتجنبونه ويقاطعونه في المناسبات.

- لم يترك امرأة من شره، حتى نساء عائلتنا عانين كثيرا من شره

- هس..هس.. بلاش فضائح. كفوا عن هذا الحديث الآن، عقابه لدى خالقه، اعطونا شربة ماء.

 - اذهب با بني الى خوري القرية، قل له ان سعيدا بحالة حرجة وقد يغمض عينيه للمرة الأخيرة خلال الساعات القادمة، نرجو حضورك لتناوله وتصلي عليه من اجل خلاص روحه.

 - هل سيحضر الخوري حقا؟

 - على مهلك... واجب الخوري ان يخدم اهل كنيسته.

خلال نصف ساعة وصل خوري القرية بصحبة انجيل ضخم على غير عادته، وقد اثار انجيله الضخم نظرات الحضور، يبدو ان أبانا الخوري قد فهم ما تتساءل عنه العيون حيث قال:

 - قررت ان أحمل هذا الكتاب لأظهر لسعيد كم كانت خسارته عظيمة لأنه لم يعرفه ولم يؤمن به كما ولم يعمل بتعاليم الرب ليسير على هدى الأخلاق المسيحية التي تأمر بالمحبة والعمل الصالح.

 - شكرا يا ابانا ما سيفيده ذلك والموت يقاسمه السرير؟

 - ابنائي ان طرق الله لا يعلمها البشر، واجبنا القيام بما يفرح القلوب ويرضي الخالق، ونسلم أمرنا لله وابنه المخلص يسوع المسيح.

- وهل تنفع توبته وهو في ساعاته الأخيرة؟

- هذا ليس من شأننا ان نحكم عليه، الملك الوثني العظيم قسطنطين عُمِّد مسيحيا وهو على فراش الموت، ومات مسيحيا. نحن ننفّذ تعاليم الله بإيصال بشارة الخلاص للبشر، من يقبلها فله ملكوت الله، كما يعلمنا الانجيل المقدس، ونحن لا نضع شروطا على الله لغفرانه او عدم غفرانه لبعض الناس.

دخل الخوري غرفة سعيد حيث كان وجهه شاحبا، ونظراته توحي ان ساعته لم تحن بعد.

القى الخوري التحية، فرد سعيد بصوت واهن:

 اهلا ابونا...

 - بنيَّ.. هل تسمح لي بالصلاة من أجل خلاص روحك؟

 لم ينتظر جوابا من سعيد حيث بدأ بصلاة "ابانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك..." شاركه فيها كل المتواجدين في الغرفة الا سعيد حيث جال بنظره على من حوله وتعابير وجهه لا تعبر عن أي شيء.

وضع الخوري انجيله الضخم قرب رأس سعيد وهو يقول: "ليصفح الله لك عن خطاياك، كما صفح لنا عن خطايانا جميعا، وهو الذي ارسل ابنه المسيح من اجل انقاذ البشر من خطاياهم".

فوجئ الجميع لاهتمام سعيد بالإنجيل.. وتساءل:

- ما هذا الكتاب الضخم يا ابانا؟

 - انه الانجيل المقدس.

ونظر الخوري بعيون الأهل المتجمعين حول السرير، وكانه يقول لهم هل رأيتم فائدة احضار انجيل ضخم؟ تساءل سعيد:

 - لماذا هو هكذا كبير؟

- مضمونه أكبر يا سعيد، انه يحمل تعاليم المسيح.

 يا للخسارة، لأنني لم اعرف هذا الكتاب الكبير من قبل؟

 - انه كبير بنصوصه وتعاليمه.

- يبدو انه كتاب عظيم.. لم اعرفه من قبل...

- كنت ضالا يا بني، حان الوقت لتطلب الغفران من الله، لتلقى وجهه بروح تائبة ونفس خاشعة.

- آه لخسارتي العظيمة...

- لا تتعب روحك يا بني، قبل هذا الكتاب، ضع علامة الصليب على صدرك واطلب من الله وابنه المسيح الصفح والغفران.

قام الخوري بوضع علامة الصليب ثلاثة مرات فوق سعيد الممدّد على السرير وهو يقول: "لتصفح له يا ابانا الذي في السماء عن خطاياه، كان ضالا وتاب، كان تائها ووجد الطريق".

قال سعيد:

- اني أموت وحسرتي في نفسي... كنت بحاجة لهذا الكتاب الضخم.

استطرد الخوري:

 - ليغفر لك الله آثامك مهما كانت.

أجاب سعيد:

- كان يجب ان اعرف هذا الكتاب الضخم من قبل

 - انها مشيئة الله ان تعود من ضلالك قبل موتك... الحجم لا أهمية له، المضمون له قيمة عظمى، وهو ما نريدك ان تؤمن به.

 كم هي عظيمة خسارتي.. سأموت وحسرتي في قلبي.

احتار الخوري من كلام سعيد، ولم يجد ما يضيفه الا تكرار ما قاله سابقا.

واصل سعيد:

- كنت بحاجة لهذا الكتاب الضخم.. آه من ألمي وحسرتي

ما هي حكايتك يا بني، لم اعد افهمك.. أفصح لنفهم ماذا تقصد؟

اشتد الألم على سعيد، التقط أنفاسه، نظر في عيون المحيطين به، وقال:

اني ألومكم لعدم معرفتي بهذا الكتاب حين كنت بحاجة اليه.

قال كبير العائلة:

 - وهل كنت تنصت لنصائحنا يا سعيد، حيث جلبت لنا الفضيحة تلو الأخرى لحماقتك ولسوء أعمالك؟

 - نصائحكم لم تكن تنفعني، لو استمعت لكم لعشت ميتا في الحياة، ولكن هذا الكتاب كانت له ضرورته.

تبادل الأهل والخوري النظرات. التقط سعيد انفاسه وقال:

 - اريد ان اروي لكم سبب حاجتي لهذا الكتاب حتى لا أموت وأنتم على غير علم بما أقول. كنت عائدا من حقل والدي أقود عربة مليئة بالقش لإطعام القطيع وفي الطريق صادفت فتاة من اهل القرية عائدة مشيا في الظهيرة، أشفقت عليها ودعوتها لتصعد الى عربتي، فأنا أيضا أحمل قلبا رقيقا شفوقا... صعدتْ وجلستْ قربي خَجِلة. نظرت الى وجهها وأعجبت بجمال عينيها، تناسق قسمات وجهها، وشعرت برغبة مجنونة لأضمها الى صدري وأقبّل عينيها. تمنّعتْ وقاومتْ، تغلبتُ عليها وألقيتها وسط العربة فوق القشّ، كانت امامي ضعيفة وبكت. حاولتُ طمأنتَها بأني لن اسبب لها الألم فانا أحب النساء وأعشق دلالهن.. وعندما كدت أوصلها هبط القشّ أكثر، هبط جسمها عميقا في القشّ.. حاولتُ رفعها لأعلو فوقها فانغرزت في القش اكثر.. محاولاتي باءت بالفشل.. وقد اقتربنا من القرية فاضطررت للتوقف عن محاولتي هذه حتى لا أورّطها بمشكلة لا يعلم احد مداها. ولكن يا ابانا، لو كان بحوزتي هذا الكتاب الضخم، لأضعه فوق القش، لكان لي عونا وما عانيت من فشل وحسرة لم تفارقني حتى اليوم... 

 

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.