3

:: الهوس الثقافي!! ::

   
 

التاريخ : 06/05/2017

الكاتب : نبيل عودة   عدد القراءات : 1392

 


 

 

*هل من ضرورة لنثبت أن مساحة الحرية والتعددية الثقافية والفكرية وحرية النشر هي القاعدة

التي جعلت ثقافة المهجر منارة ثقافية راسخة نحلم أن تنعكس بكل ثرائها في واقعنا الثقافي؟*

المنطق السليم يفترض ان يساند الأدباء بعضهم بعضًا للسير بالأدب ورفع مستواه الإبداعي*

 

 

يدّعي بعض المثقفين ومدّعي الثقافة التفوّق في كل ما يطرحونه، والويل لمن يعترض على رؤيتهم أو يطرح ما يعارض تفكيرهم. الموضوع يرتبط برغبة تصل لدرجة الهوس لفرض السيطرة على الآخرين وعلى مجمل الحياة الثقافية، من رؤيتهم النرجسية الواهمة لمكانتهم المميزة في مجتمعاتهم. يظنون أنهم هم أصحاب الرأي الذي لا رأي قبله ولا بعده، هم المشكّلون للرأي الاجتماعي العام ولمسيرة الثقافة.. هم الناطقون باسم مجموعاتهم السكانية والمعبّرون بشكل عام عن تطلّعات مجتمعاتهم المستقبلية بكل امتداداتها الإنسانية.. المنطق السليم يفترض أن يساند الأدباء بعضهم بعضًا للسير بالأدب ورفع مستواه الإبداعي ليعبّر عن تطلعاتنا في الحياة الحرّة الكريمة، إن النظرة الدونية للآخرين نمت على قاعدة لا تختلف كثيرا عن الفكر القبلي، حتى لو سمي ذلك الفكر بتنظيم سياسي.

التنظيمات السياسية في ثقافتنا مارست نهجا لا يمكن ربطه بالمفاهيم الإنسانية للثقافة. نمت لدى البعض الأوهام بالتميّز وعمّقتها، من رؤيتها أن ذلك يقوّي مكانتها داخل مجتمعها ويعزّز مكانتها في المنافسة على الأصوات الانتخابية. ربما في مرحلة ما كان يمكن تبرير هذا التصرّف، لكن مع انتشار الثقافة والوعي وانتشار التعليم وإمكانيات النشر أضحى هذا النهج نهجا سلبيا مثيرا للسخرية، بتمسّك البعض بأوهام التميّز، وهم بكل تفكيرهم وإبداعهم ما دون المتوسط. هذه الظاهرة تجاهلت العديد من المبدعين، الأمر الذي يوجب إعادة تقييم مسيرتنا الثقافية بالتجرّد من ربطها بالتنظيمات السياسية والترويج الإعلامي الذي مارسته. قال احد القادة السياسيين (وهو بنفس الوقت أديب مبدع) في محاضرة له أمام طلاب جامعة: أن الشعراء لدينا هم أربعة (من الواضح انه يعني أربعة شعراء المقاومة من أعضاء حزبه).. لم يذكر غيرهم، وعندما سأله احد الطلاب "ألا يوجد غيرهم؟" قال "بالنسبة لنا لا يوجد سوى هؤلاء الأربعة"!!

المثقّفون، الذين تباروا لكسب ودّ ذلك التنظيم حتى يجعلهم "أدباء مرموقين" (رغم أن بعضهم ما دون المتوسط) بما يوفّره لهم من إعلام ووسائل نشر وتوزيع كانت لفترة طويلة مرجعا وحيدا للثقافة العربية داخل إسرائيل، تصرّفوا بعقلية لا تختلف عن عقلية القائد السياسي إياه، الذي لا يرى إلا من كان تابعا لحزبه، ويشغل فكره حساب بسيط، مكانته الخاصة، ولتذهب القيم كلها إلى الجحيم. عشنا هذه المرحلة بكل ما تحمله من نرجسيات تركت لنا واقعا ثقافيا وسياسيا فاسدا. ادّعوا أنهم أصحاب المعرفة الأبرز والإبداع الأرقى.. ويجب تقييم كل "خربشاتهم" بصفتها أفضل ما يمكن أن ينتجه المرء من ثقافة أو مواقف فكرية،  وكل مثقف لا ينتمي لتيارهم، أو ينتقده، توجب مقاطعته وتجاهله وشطبه من الثقافة، هذا مع الأسف ساد ثقافتنا في مرحلة تاريخية مبكرة من تطورها وآثاره  السلبية تشكل اليوم حالة شاذّة يجب علاجها وشطبها من واقعنا الثقافي. ولا بد أن أشير أني كنت منضويا في نفس التنظيم، عندما كان منارة حقيقة بنيت ثقافتنا على قاعدتها، لكن التطور تجاوز منطقه العتيق، ولم يستوعب ذلك التنظيم التغييرات العميقة في المجال الإعلامي واتّساع مساحة النشر.. إلى جانب أن إعلامه لم يعد مميّزا، بل يتخلّف وراء الإعلام الالكتروني العاصف.. وطبعا فقدانه السيطرة على الجيل الجديد من المثقفين الأكاديميين، الذين تجاوزوا فكره الذي بات عائقا أمام انفتاحه وتحرّره من جموده العقائدي. 

لا اكتب ذلك كتقييم، إنما كمثقف عاش تلك المرحلة وكان ناشطا بإطار سياسي لعب دورا مركزيا بفرض رؤيته والترويج لمثقفيه والسيطرة على وسائل النشر والإبراز لأسماء دون غيرها،  ليس على قاعدة ثقافية تنويرية، بل حسب مصالح تخدم في النهاية فكراً وتنظيماً سياسياً، مع كل تقييمنا لدوره الايجابي في مرحلة تاريخية ما، إلا انه مع الوقت أضحى عاملا سلبيا مسيئا للواقع الثقافي وتطوره، طبعا التاريخ لا يتوقف عند رغبات البعض لذا بات من الضرورة إعادة تقييم واقعنا الثقافي بعقلانية.

بالطبع هناك أنواع من المثقفين غير دارجة للأسف الشديد بشكل بارز في ثقافتنا العربية. ربما نتيجة الواقع العربي وعلاقة المثقف مع سلطة تعدُّ عليه حتى أنفاسه. هناك مثقف مختلف نوعياً، وجوده نادر في مجتمعاتنا، يحدثنا عنه الفيلسوف الايطالي انطونيو غرامشي، انه "المثقف العضوي"، أي المرتبط، أو المنغمس بقضايا الجماهير التي كرّس نفسه لخدمتها، وليس بإطار حزبي ضيّق يحدّد متطلّباته من مثقّفيه. كان لطرح غرامشي فهما حزبيا ضيقا.  المثقف كما طرحه غرامشي على استعداد لدخول السجون، النفي، المعتقلات ولن يتراجع عن إخلاصه لقضية الجماهير التي كرّس حياته بقناعة صلبة من أجل خدمتها. ما عدا فئة المثقفين التنويريين، الذين يحملون دماءهم على أكفّهم لا نجد داخل ثقافتنا العربية التي عانت وما تزال تعاني نسبيا من حصار ثقافي، هنا وفي العالم العربي، إلا قلّة من أمثالهم... واضح أن الكثير من المثقفين يضطرهم الزمن العربي الأسود للهجرة إلى الدول الغربية، حيث يمارسون نشاطهم الثقافي والفكري والنقدي بحرية لا تتوفّر لهم في أوطانهم.

من هنا رؤيتي أيضا للكثير من الحوار الذي نشهده في منتدياتنا العربية ومختلف مواقع الانترنت، بين أصحاب القلم، معظمه يعاني من النرجسية الشخصية، من رفض للآخر.. قليلون من المثقفين متّزنون ومنفتحون على الرأي الأخر.. ونقاشهم يتعلق بصميم الطرح وليس بشخصية صاحب الطرح.

للأسف ما يتعاظم هو الحوار المهترئ. حوار الطرشان، حوار الذمّ والشتم واللسان السيّئ، أو الفكر المنغلق. وقد يصحّ أن نقول أن هذا مقياس لتخلخل موازيننا الاجتماعية وليس الثقافية فقط.

على المستوى الذاتي وصلتُ لقناعة بعد تجربة، أن أتجاهل وأرفض الخروج إلى "عليهم".. مع أنني حتى في ردودي الجارحة والمؤلمة، أحافظ على مستوى ثقافي... البعض (المنغلق) يخرج تعابير وجمل مقالاتي من سياقها.. مثلا تحت ستار خدش الحياء، وتحت ادعاء الوطنية.. أما أن يرتكبوا الموبقات كلها، بما فيه "الزنى الثقافي"، وان يضطهدوا المرأة ويذلّوها، وان يتاجروا بالوطن، وان يتمتعوا بأحضان أصحاب الأموال والشأن، وان يغيبوا عن أي فعل ثقافي أو تنويري أو نضالي.. وتحولهم إلى صوت سلطوي ومرتشين وفسادين... فهذا ورع واستقامة في حسابات البعض.

قيم تنقلب حسب السوق. ثقافة العرض والطلب دمرت ثقافة التنوير، بل دمرت مرحلة التنوير كلها في الثقافة العربية... كل سلطة لها مخصصاتها المكشوفة والسرية لشراء المثقفين وأقلامهم. ووصلنا إلى ظواهر أخطر، حين صارت تنظيمات سياسية عرفت بتاريخها النضالي وتضحياتها البطولية، واستشهاد قادة وأعضاء من تنظيمها، ولم يتراجعوا أمام أبشع أنواع القمع.. أضحت اليوم تباع وتشترى وتحرف تنظيراتها لتلائمها مع انهيارها الفكري والتنظيمي والعقائدي.

الاعتقاد السائد والصحيح نسبيا أن المثقف يبحث عن الحرية. ودائما تحركه الرغبة في نيل مساحة أكبر من الحرية والتعبير عن الذات وطرح الأفكار والآراء المختلفة. فلماذا تنعكس صورة المثقف في ثقافتنا العربية بسلبية وباضمحلال متواصل لمكانته الاجتماعية؟

لماذا يتلاشى دور المثقف العربي في حين يتعزّز دور المثقف في الغرب؟

لا أطرح ما أطرحه لأقدّم أجوبة قاطعة، إنما أطرح مادة للتفكير والنقاش.

إن وضع الحريات للمثقف العربي في تراجع منذ عهد الطهطاوي في منتصف القرن التاسع عشر... وما أحدثته الثورات العربية القومية، لا أجد له انعكاساً اليوم على الساحة الثقافية. بل أجد اختلالاً بالموازين القديمة وتراجعاً شاملاً على المستوى التنويري. من المؤكد أن إلغاء الحريات السياسية في الدول العربية قد أضرَّ بالحالة الثقافية.. وخلق مثقفين سلطويين تركوا آثارهم السلبية على مسيرة الثقافة والتنوير العربي.. فهل بالصدفة أن الثقافة العربية في المهجر أضحت في طليعة الثقافة العربية؟ وهل من ضرورة لنثبت أن مساحة الحرية والتعددية الثقافية والفكرية وحرية النشر هي القاعدة التي جعلت ثقافة المهجر منارة ثقافية راسخة نحلم أن تنعكس بكل ثرائها في واقعنا الثقافي؟

الموضوع كما قلت مطروح للحوار. ما قدّمته هي وجهة نظر أولية.. خاضعة للتطوير والتعديل والإضافة.

ولكن هل يمكن بسبب ما ذكرته أن نبرّر ونتسامح.. مع مستوى الحوار المهترئ في ثقافتنا؟

ألا يتحمّل المثقفون، مسؤولية التهاوي المخلّ بالمنطق السليم لمستوى حوارهم؟؟

هل من تبرير لأي مثقف كان، أن يلجأ لحوار مهترئ وتشهيري مليء باللسان السيّء، لمجرد أن الآخر له رؤية مختلفة ونهجاً مختلفاً وعقيدة مختلفة وانتماءً مختلفاً؟

للأسف أقول أن هذه الحالة تسود ثقافتنا اليوم. تسود حواراتنا على الشبكة العنكبوتية والصحافة بمجملها.. أنا لست خارج هذا الواقع.. حتى لا يقال برّأ نفسه من دم الصديق.

الويل لك إذا كنت ابنا لطائفة ليست من طائفتي.

الويل لك إذا كنت تتبع اتجاهاً دينياً مختلّفاً عن اتجاهي.

الويل لك إذا كنت ابناً لأقلية دينية في مجتمعي.

الويل لك إذا كنت ابناً لأقلية قومية في دولتي.

الويل لك إذا كنت تحمل رأياً لا يتّفق مع رأيي.

الويل لك إذا تجرّأت وطرحت موقفاً مختلفاً عن موقفي.

الويل لك إذا لم تعترف أني دائماً الأشطر والأذكى.

الويل لك إذا لم تمدح أفكاري ومواقفي وإبداعاتي كلها.

الويل لك إذا كنت عضواً في منظمة سياسية منافسة لمنظمتي.

يمكن أن نعدّد عشرات الويلات، مثلاً أن تناقشني علنا على صفحات الانترنت، أن تعارض ما أجمع التابعون والمهرجون انه قمّة العبقرية والصواب.

لست في باب التعرّض إلى أسماء. لا  تهمني الأسماء، إنما الظاهرة المرضية.

احد المنتديات الذي يتلفّع باسم الحضارة... تحت صيغة اسم الحضارة يرتكب ما لا علاقة له حتى بالتخلف، أي هو ما دون التخلف.

كانت تصلني منه ايميلات شخصية من عضو في إدارته بلقب دكتور "مترجم اللغة العثمانية / باحث ومفكر" اسمه غير مهم، هي مجرّد سباب رخيص وتحريض ديني، لا يصدر إلا عن مختلّ عقلياً.. وحتى يصيروا موقعاً حضارياً، مع العقليات التي تدير "المنتدى الحضاري" إيّاه، قد يستغرقهم الأمر خمسة قرون.

سُئلت وأجبت أني ابنٌ لعائلة مسيحية، لكني علماني. فطالت الشتائم المسيحيين العرب والصليبيين وأبناء القردة والخنازير والنجسين والكفار وما شابه من هذا اللغو "الحضاري". فماذا تبقى من حضارة المنتدى؟

مؤسف للغاية ما أواجهه أحيانا من بعض المتحاورين، رغم النفخة الثقافية التي يتمخترون بها. حواري لا يعنيهم. شخصي هو الذي يتعرّض منهم للهجوم واللسان السيّء. أتجاهل.. ليس ضعفاً، ولكن ما يشغلني أهم من الحساسيات الشخصية لأفراد ينزلون بمستواهم الثقافي لمستوى التثاقف. أولئك يرتكبون انتحاراً ذاتياً، ليس لأن التهجّم غير الثقافي ضدَّ نبيل عودة يربكه، بل لأن العقلية التي تقف وراء هذا الأسلوب مرفوضة من معظم المثقفين والقراء كما يتبين. وأكاد أجزم أن كون الشخص "مثقفاً" لا تعني انه يفهم المقروء، أو يدرك إلى أين تهبّ الريح في النص. وهذا ظاهر في استغلال كتابات لي لإثبات ما لم أقله ولم يدخل ضمن تفكيري عند كتابة نصّي.. وتفسيري الوحيد لها انها كراهية دورية، جاء الآن دوري، والبديل أن يكره الشخص ذاته إذا لم يجد من يكرهه.

مثلا تعبير "عربي فلسطيني مواطن في إسرائيل" يثيرهم ويغضبهم، وهناك موقع قاطعني بسبب ذلك.. هذه حقيقة لم أخترها ولست من التفاهة لأخبّئ رأسي مثل النعامة. مواطنتنا في إسرائيل لم تكن هبة من الدولة الصهيونية. بل قتال ونضال بطولي وسجون وقذف وراء الحدود والإصرار على العودة، والاستلقاء لعشرات المناضلين البواسل من قياداتنا التاريخية أمام عجلات سيارات الترحيل، ونشاط قضائي لوقف التشريد المبرمج وفرض إصدار الهويات الزرقاء لأبناء شعبنا ليبقوا في وطنهم. هل صار هذا النضال عاراً علينا؟ هل صرنا بسبب صمودنا في وجه أسفل الأمواج العنصرية والقمعية "صهاينة متعاونين"؟

 الأدب هو شكل من أشكال النشاط الجمالي والإبداعي للإنسان والأهم انه شكل من أشكال الوعي الاجتماعي للواقع الذي يعيشه الإنسان بكل امتداده معبَّرا عنه بالتخيّل أو بالدمج بين الخيال والواقع. لا أدب خارج المجتمع البشري وخارج الواقع الاجتماعي. لا أدب بدون مجتمع بشري يعي حقوقه ويجعل أدبه  جزءا من نضاله التحرري، أو لخدمة قضية صادقة وإنسانية. ولا بد من التأكيد أن للأدب دورا جماليا، فكريا، تربويا، فلسفيا وسياسيا بالغ الأهمية في حياة المجتمعات البشرية وصيرورتها. لذلك تجاهل أسماء مبدعين لا يخدم تطوير ثقافتنا، بل يدخلنا بصراعات مختلفة لا تخدم ثقافتنا، بل تنظيمات نفعية وبعض الانتهازيين!!

 

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.