3

:: اللغة بين التقديس والتحديث ::

   
 

التاريخ : 05/07/2017

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1787

 


 

عام 1940 انتُخب عبّاس العقاد عضوا في مجمع اللغة العربية. وكان الموسيقار محمّد عبد الوهاب مشغولا بالعثور على كلمة بدلا من كلمة "المذهبجي"، أي الفرد من الكورس الذي يردّد "المذهب" الغنائي المتكرّر. لم يكن عبد الوهاب مستريحا إلى كلمة "مذهبجي" لكنه لم يهتد إلى كلمة بديلة ملائمة، فاتّصل بعباس العقاد وشرح له الموضوع فطلب العقاد منه أن يمهله يومين للتفكير. بعد يومين اتصل به عبد الوهاب فسأله العقاد: "ماذا يفعل المذهبجي هذا؟" قال عبد الوهاب: "يكرّر اللحن". أجابه العقاد: "إذن فهو يكرر ما يقال وحسْب؟ لا رأي له؟ إنه إذن إمّعة. قل إمّعة ولا تقلْ مذهبجي".

لطم عبد الوهاب في السرّ فقد أراد كلمة سهلة عصرية فإذا بالعقاد ينبش كلمة مهجورة ربما تصلح عند الكتابة لكنها لا تناسب الحديث اليومي!

قال عبد الوهاب: "أنا قلت خلّينا بقى على مذهبجي وخلاص".

والحق أننا هنا لسنا إزاء مجرد حكاية طريفة، بل إزاء موقفين من اللغة: تقديسها، كما فعل العقّاد أو تحديثها بما يلائم احتياجات الحياة. تذكّرت تلك القصة بمناسبة المؤتمر الذي عقده هذا العام مجمع اللغة العربية في القاهرة من 24 أبريل حتى منتصف يوليو تحت عنوان "اللغة العربية في التعليم ومسؤولية الأمّة". فقد جاءت معظم توصيات وكلمات أعضاء المجمع مشبعة بروح تقديس اللغة التي هي:"لغة الوحي المنزل وشعار الهوية وعنوان الوحدة" حسب ما جاء في كلمة د. حسن الشافعي رئيس المجمع. وليست مشكلة اللغة أنها "لغة الوحي وشعار الهوية"، فهذا كلامٌ متّفقٌ عليه، لكن للّغة مشكلات أخرى جديرة بالنظر العميق، إذا أردنا ألا يمنعنا التقديس من التحديث. وللبدء أقول إن مهمّة المجمع الرئيسية في تصوّري ليست حماية اللغة بمفهوم الحماية الشائع، بل مجاراة تطوُّرها، فالحماية هي عدم المساس بالشيء، واستبقائه على حاله، بينما كل ما يبقى على حاله من دون تطور يفنى ويذبل. وتطوير الفصحى يأتي أولا من تجديد مناهجها في التعليم، وهو تجديد مستحيل من دون تشكيل لجنة – بعيدا عن موظفي الوزرات- من أدباء وشعراء يتخيّرون النصوص الأدبية والقصائد التي يتم تدريسها للتلاميذ. إلى اليوم مازال تلميذ الاعدادية مرغم على أن يحفظ "أتاني أبيتُ اللعن أنك لُمْتَني"! وأن يحفظ قصائد مطوّلة لا معنى لها ولا تمتُّ للشعر بِصِلة لأن الذين يتخيّرون المادة الأدبية موظفون. ثانيا ينبغي أن يتم تدريس المادة الأدبية ليس وفقًا للتاريخ، بل بدءًا من الأسهل وصولا إلى الأصعب. فلنبدأ مع التلاميذ ليس بأبي العتاهية والبحتري، بل فلنبدأ معهم بإبراهيم ناجي، ومحمود حسن اسماعيل، ونزار قبّاني، وحينما يكتشفون في كل ذلك متعة الشعر والفن يمكن المضي معهم إلى أبي فراس الحمداني، وأبي العلاء. نحن إذن بحاجة إلى منهج يبدأ من العصر الحديث ثم إلى العصور السابقة. تطوير اللغة يجب أيضا أن يمسَّ منظومة القواعد التي جعلت اللغة العربية إحدى أصعب اللغات. على سبيل المثال، لقد عرفت لغاتٌ كثيرة صيغة المثنى، ثم تخلّت عنها مع مضى الوقت، ولدينا شواهد في اللغة العربية على استخدام الجمع حيثما كان ينبغي استخدام المثنى، بل وسنجد في القرآن الكريم بسورة الحجرات مثالًا على ذلك: "وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا". والطائفتان مثنى بينما الفعل اقتتلوا في الجمع.

لابد لنا من تشكيل لجنة من الأدباء لاختيار النصوص، ولابد لنا من تغيير منهج تعليم اللغة لتبدأ المواد فيها من العصر الحالي، ولابد من النظر في تسهيل منظومة القواعد. لهذا يظل تيسير اللغة على التلاميذ في المدارس نحوًا وصرفًا ومادّةً أدبية هو أول ما ينبغي الاسترشاد به لتجدد اللغة حيويتها.

أخيرًا، لابدَّ من حثّ اللغة الفصحى على الاستجابة لما تطرحه عليها العامية من تجديد وتطوير، لأنّ العامية أو الحديث اليومي هو المصنع الذي يتم فيه تعديل الفصحى وتوجيهها للأسهل والأصلح، وفي العامية يختبر الناس الكلمات فينبذون بعضها ويقبلون بالبعض الآخر. على سبيل المثال ستجد في المعاجم فعل "شبث" و"تشبّث"، لكن نطق ذلك الفعل ثقيل في الحياة اليومية لذلك حوّله الناس إلى "شبط" وصاروا يقولون "شبط في الشيء" ، أي شبث به. هكذا يتّضح أن العامية هي المصنع الذي تختبر فيه صلاحية الكلمات وفيه يتم تحويرها وتعديلها للأسهل والأصلح. ولهذا لابد للمجمع أن ينظر في كيفية إقرار الكثير من الكلمات الجديدة خاصة تلك التي من أصول فصيحة. في النهاية يتبقى دورنا في نشر الوعي بالعلاقة الوثيقة بين العامية والفصحى.

على سبيل المثال نحن نقول" حِتَّة جبن". وكلمة حِتَّة فصحى سليمة. نحن نقول فلان عمل زنبة في فلان، ولا نتصور أن كلمة " زنبة" فصحى وترد في لسان العرب بمعنى قرصة أو لدغة. ونقول يوميا "فلان زحلق فلان" ولا ندري أن زحلق فصحى بمعنى انزلق. وهناك كلمات بلا نهاية من هذا النوع الفصيح العامي، مثل كلمة "مزّة" الشائعة بين الشباب، وكلمة "دردحة" وغيرها. ولابد لهذه العلاقة بين العامية والفصحى أن تتّضح أيضا في الأدب، وقد دعا إلى ذلك توفيق الحكيم من زمن بعيد.

تحتاج لغتنا إلى مجهود لكي تُبدي لنا وللآخرين كل جمالها.    

د. أحمد الخميسي. كاتب وقاص مصري

     

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.