3

:: التوزيع الموسيقي وتقنيات العزف في المدرسة الرحبانية ::

   
 

التاريخ : 13/05/2009

الكاتب : صلاح الدين الشماط   عدد القراءات : 5470

 


  

التوزيع الموسيقي وتقنيات العزف في المدرسة الرحبانية

صلاح الدين الشماط   

 

ظهرت في بداية الأربعينيات مدرسة موسيقية كلاسيكية بقيادة الفنان العظيم الراحل محمد عبد الوهاب (1908 ـ 1991) الذي استخدم أوركسترا كبيرة تضم آلات (نفخي، إيقاعي ووتري) خلافاً للتخت الشرقي المعروف في ذلك الزمن الذي يعتمد على الآلات القليلة من وتريات، وإيقاع شرقي، وعزف أيضاً على العود، والقانون. لقد اعتمد الموسيقي محمد عبد الوهاب تقنيات العزف الكلاسيكي المتبع بالأوركسترا الغربية الكلاسيكية، لكنه لم يبتعد كثيراً عن الأجواء الشرقية الساحرة القريبة من قلوب الناس، وأحاسيسهم.

أيضاً ظهرت مدرسة فنية أخرى شرقية كلاسيكية بقيادة الفنان العظيم الراحل فريد الأطرش (1918ـ1974)، وكانت هذه المدرسة شرقية بأوركسترا كبيرة وقريبة إلى الكلاسيكية المتبعة. ولكن بعض الأعمال الغنائية كانت كلاسيكية على الطريقة الغربية من حيث عدد الآلات، وتوزيعها نفخي، إيقاعي، وتري مستخدماً بذلك الأوزان الإيقاعية العالمية مثل (سامبا، لامبادا، رامبا، مارش) إضافة إلى الأوزان الإيقاعية الشرقية مثل (المقسوم، البلدي. . . ) وأيضاً المقامات الشرقية مثل (صبا، نهوند، عجم، بيات، سيكا، راست، حجاز).

إن هاتين المدرستين متميزتان بالتوزيع الموسيقي باستخدام القديم والحديث الشرقي والغربي، حتى إننا نلاحظ في أغنية واحدة عدة مقامات وعدة أوزان إيقاعية، هذا إبداع ما بعده إبداع. أيضاً نلاحظ ونسمع في أغنيات محمد عبد الوهاب الوطنية والقومية استخدام آلات نفخية نحاسية تشبه المارشات العسكرية حيث تحث على الثورة والتمرد.
تحدثنا مبدئياً عن مدرستين فنيتين لعبد الوهاب وفريد الأطرش الملتزمتين بالأوركسترا الكبيرة والمقامات الشرقية والغربية.

ونتحدث الآن عن مدرسة شبيهة بهما ألا وهي المدرسة الرحبانية من حيث التوزيع وتقنيات العزف الفريدة من نوعها وتميزها.

بدأت المدرسة الرحبانية أواسط الخمسينيات من القرن الماضي بأغنيات تعتمد على الشعر الجيد والجميل، وأوركسترا قليلة العديد وشرقية بأسلوبها وآلاتها ثم تحولت إلى أوركسترا كبيرة شبيهة بالكلاسيكية من حيث العدد والتوزيع (نفخي، إيقاعي، وتري) ومقامات كلاسيكية (مينور، ميجور) وأوزان إيقاعية (سامبا، رومبا، لامبادا، مارش) وأيضاً استخدمت الأوزان الإيقاعية والمقامات الشرقية في بعض الأغاني، إذ إن هذه المدرسة تأثرت بالموسيقيين الكلاسيكيين الغربيين الرومنسيين أمثال (فريدريك شوبان 1810، 1856) و(فليكس ماندلسون 1809 ـ 1847) و(روبرت شومان 1810 ـ 1856) و(فرانز شوبرت 1797 ـ 1828) من حيث التأثير الشاعري الساحر بتلك الألحان التي تخاطب عقل المستمع ومشاعره.  كما نلاحظ دقة العزف من حيث (الهرمونيك) والتوافق بين الآلات بوحدة متآلفة منسجمة بين الآلات جميعاً، حتى إننا نسمع دربكة وإيقاعاً مثلثاً، وكلا الصوتين واضحان جداً، حتى إن بعض الموسيقيين لم ينجحوا في تلك التجربة (دربكة وإيقاع مثلث).  وحدة متكاملة بين مجموعة آلات الكمان العزف بتوافق زمني موحد بين بداية السلم الموسيقي من الأسفل أو من الأعلى.  ومثال على ذلك أغنية (بكتب اسمك يا حبيبي) إذ نسمع مجموعة آلات الكمان مرة من بداية السلم الموسيقي ومرة من نهايته.

لقد استخدم الرحابنة البيانو (المقصود عاصي ومنصور) في العديد من الأغاني الشبيهة بكونشرتو البيانو أمثال شوبان، شومان، ماندلسون مثل أغنية (يارا) بصوت البيانو الجميل وكأن الصوت قادم من الفردوس.

لقد استخدم هذان الفنانان آلات نفخية نحاسية في أغاني القدس، وبدت هذه الأغاني ثورة صارخة، وكان استخدام الآلات النفخية النحاسية مع الإيقاع الكلاسيكي عُنْفاً، وثورة، وتمرداً. إن دوي الآلات النفخية النحاسية في أغاني القدس توحي بالحرب ليس فقط بالموسيقا بل أيضاً بالكلمات المؤثرة الصارخة. ولن ننسى أن تأثير الموسيقا الكلاسيكية واضح بهذه الأعمال من حيث استخدام نفخي نحاسي (ديمتري شوستاكوفتش  1906 – 1976) و(غوستاف ميلر 1860 ـ 1911).

في أوائل السبعينيات حصل تعديل على التوزيع الموسيقي، فقد اشترك الابن زياد في هذه المدرسة العظيمة، إنما بأعمال شرقية ومقامات وإيقاعات شرقية. وهي أيضاً لا تقل جمالية عن الأعمال السابقة، إنما كانت بإطار شرقي مستخدماً فيها العود والقانون بعد أن قلّ استخدامهما في الأعمال السابقة إلا في بعض الأغاني مثل (لاعب الريشة)، إذ كان صوت العود متميزاً وجميلاً ومنسجماً مع الأوركسترا (طبعاً لا أريد التحدث عن الأعمال الأخيرة لأنها تخرج عن هذه المدرسة).
أيضاً اشترك الأخ الثالث للمدرسة وهو إلياس الرحباني في أعمال كثيرة، فقد أدخل
آلات جديدة إلى هذه المدرسة على الطريقة الغربية، مثل مجموعة الدرامز (وهي مجموعة طبول وصنج) وأورغ كهربائي.

إن هذه الأعمال التي قدمتها المدرسة الرحبانية تتطلب أوركسترا كبيرة وآلات كثيرة (نفخي، إيقاعي، وتري) لأن القصائد التي لُحِنت تتطلبها.

عندما لحن محمد عبد الوهاب، وهو صاحب مدرسة كلاسيكية، لم يخرج عن الإطار العام للمدرسة الرحبانية في أغنية (سهار، سكن الليل)، إذ كانت الألحان على العود فقط بدون توزيع.

لو كتبنا آلاف الصفحات عن هذه المدرسة المميزة لبقينا مقصّرين بحقها بما قدمته خلال خمسين عاماً من العطاء المتميز للفنون في الوطن العربي.

النور

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.