3

:: نجيب سرور فـي أوج أزمـتـه - شهادة ::

   
 

التاريخ :

الكاتب : عبدالعظيم قباصة   عدد القراءات : 6870

 


 

 

 

 

   نجيب سرور

فـي أوج أزمـتـه

شـهــادة

 

 

عبدالعظيم قباصة

 

 

مقـدمـة

 

قد يتساءل البعض – وهذا من حقّهم – لماذا هذه الشهادة؟ وما أهميتها؟ وما الذي تضيفه؟ خاصة لدى الكثيرين الذين يعرفون نجيب سرور ويعرفون معاناته، وأنا في الحقيقة ليست لديّ إجابة على مثل هذه التساؤلات عدا القول: إن المسألة في اعتقادي لا تعدو أن تكون إحساس بأهمية هذه الإضاءة لجانب من شخصية نجيب، وتسليط ضوء أكثر على بعض الظروف التي مر بها، وعبّرت بشكل عميق عن جوانب وملامح محددة لأشكال الأزمة التي عاناها، هذه الجوانب التي – كان من سوء حظي أو من حسن حظي!! – إنني عايشتها عن قرب وتعاملت مع انعكاساتها بشكل يومي، وأنا أعتقد أن الكثير من المثقفين المصريين تقريباً لا يعلمون بهذه التفاصيل، عدا الأطراف الذين كانوا جزء من بعض هذه المواقف والأحداث – لأن وضعه وحالته بشكل عام كانت معروفة للجميع بالطبع – لذا رأيت أهمية توثيق هذه التفاصيل وإبرازها للوقوف عندها والتأمل فيها وفي دلالاتها، هذا من جانب .

أما من الجانب الآخر فأنا أعتقد أنني بهذا التوثيق أردّ لنجيب دينا مهما، بل – ويا للمفارقة – حتى لمحنته التي تعلمت منها الكثير والكثير، وكانت زادا هاما لي فيما مررت به أنا أيضاً بعد ذلك من محن ومصاعب وقمع وسجون، كنت فيها متسلحا بذلك الرصيد الهائل الذي ألهمتني إيّاه تجربة نجيب ومعاناته والدروس المستخلصة منها، والمتمثلة في إلى أي مدى يمكن أن تُعشق الأوطان!، وإلى أي مدى يجب أن يتحمل الإنسان في سبيل ذلك، لقد تعلمت منه عبر السلوك اليومي والعفوي والمباشر كيف أحبّ مصر، وما عاناه من أجل أن تكون وطنا حرا معافى، وطنا ينعم فيه الفقراء بحياة لائقة وكريمة كالبشر، وليس المنافقون والانتهازيون وتجّار السياسة والشعارات والخطب الجوفاء، هذه الدروس المباشرة والحية والمليئة  بالقوة والمشاعر الإنسانية النبيلة وبالثقة في المستقبل، مما لا يمكن التعبير عنه وإيصاله بهذه الحرارة وبهذه القدرة على التأثير عبر الكتابات أو الخطابات .

وللذين لا يعرفون نجيب سرور، فهذه الشهادة بدون شك تعريف وتسليط للضوء على بعض من معاناة هذا المناضل الوطني الشريف والنظيف والصلب والشرس، والذي لم تغره الكثير من العروض السخية لشراء ضميره، وهي أيضاً تعرية لهذه الأنظمة غير الوطنية والدكتاتورية والفاسدة وكيف تتعامل مع أكثر أبناء الوطن حبا وإخلاصا له، ودفاعا عنه وعن أبنائه الفقراء.

إنها أخيراً تحية لنجيب سرور - هذا المثقف الوطني التقدمي وأكبر عشّاق مصر - في الذكرى العشرين لرحيله أو بالأصح لتصفيته الجسدية.

لك كل الحب والتقدير والاحترام، وستبقى سيرة حياتك وأيضاً موتك التراجيدي دون شك درسا بليغا لنا ولكل الأجيال القادمة وكل من كنت له مثلا وقدوة، وأنا أحدهم.

 

                                                               عبدالعظيم قباصه

 

 

 

سفري إلى القاهرة

 

عندما اخترت السفر إلى القاهرة وتحدد موعده، كنت حينها في حوالي السنة السابعة عشرة والنصف من العمر. أذكر أنني كنت وقتها أعيش حالة من الإحباط الشديد لأسباب ذاتية وموضوعية، أعتقد أنه ليس الآن مجال ذكرها. كان ذلك في الخامس عشر من شهر مارس سنة 1971، كنت محاصراً – وكما قلت سابقاً – بذلك الإحساس المرير بالإحباط، مما ولّد لديّ رغبة ملحّة في الهرب من بيئتي والمحيط الذي كنت أعيش فيه، لذلك استثمرت أول فرصة أتيحت لي للسفر من أجل دورة تدريبية مهنية، وبشكل دفعني إلى عدم الاهتمام مطلقا بنوع الدراسة والتدريب الذي تتضمنه تلك الدورة، ولا بمستوى تأهيلنا المترتب عنها، ولا حتى على مستقبلي المهني والوظيفي الذي سيتلو اجتيازنا لتلك الدورة. كان هنالك في الحقيقة حافز آخر، فالهروب لم يكن لأي جهة وحسب، بل كان إلى القاهرة تلك العاصمة الكبيرة في كل شيء، والتي ارتبطنا بها منذ شبابنا المبكر، والتي كانت مركز الإشعاع والتأثير، بل وأيضاً الإبهار لمن هم في مثل سني ومن نفس بيئتي، كانت مصر عبدالناصر وخطابه السياسي المدوّي والأخّاذ، مصر الفكر والاستنارة والثقافة، مصر السينما والمسرح والغناء، وكان الأمل أن ذلك الزخم سيستمر حتى بعد وفاة عبدالناصر. كان زادي الفكري والثقافي حينها محدودا بالطبع، لكن مع ذلك كان اعتقادي راسخا وبإحساس ربما فطري – لأنه لم يكن مسلح بوعي كافٍ – بأنني وطني وتقدمي، لا بل حتى يساري، دعّم وعمّق هذا الإحساس عندي علاقات شخصية بأقارب وأصدقاء يساريين كنت أعيش في محيطهم واستمع إليهم وإلى آرائهم، وأيضاً كانوا يزودونني ببعض الكتب والمجلات، فلم تكن حصيلتي حينها إلا قراءات متناثرة لبعض الكتب لمفكر التنوير الكاتب/ سلامه موسى، ودواوين بعض الشعراء مثل: عبدالوهاب البياتي، صلاح عبدالصبور، أحمد عبدالمعطي حجازي ومحمد الفيتوري، وكذلك محمود درويش وتوفيق زيّاد وسميح القاسم، أمّا الروايات فكانت بالأساس روايات نجيب محفوظ، كما طالعت الكثير من المجلات المصرية واللبنانية، وفي أحد هذه المجلات – وأظنها مجلة شعر – تعرفت على شاعر ومسرحي تقدمي كبير اسمه/ نجيب سرور، حيث نشرت له قصيدتان أحدهما على ما أذكر (التراجيديا الإنسانية أو الجستابو) ووضعت صورته في أعلى الصفحة، المهم أن الاسم والصورة ظلا عالقين بذهني وخزنتهما ذاكرتي.

هذا ما كنت عليه عند رحلتي التي أعدّها تاريخية إلى القاهرة، والتي كانت بحق مهربا وملاذا بالنسبة لي في ذلك الوقت، وشكلت مرحلة تحول هامة في حياتي، حيث أسهمت في صقل شخصيتي وتطورها، إذ كنت قبل ذلك ورغم تلك الاهتمامات – أنحو منحى الشاب المتمرد وربما غير الجاد بترك المساحة المناسبة والأبرز للاهتمامات الثقافية، والانشغال الحقيقي بتعميق وعيي السياسي المبكر – أقول ذلك الآن وبقدر من الصراحة والاعتراف الموضوعي والمتجرّد، حيث أنني كنت أستغل حتى ما أستقيه من ثقافة وأفكار تحررية من سلامه موسى ونوال السعداوي وغيرهم من الكتاب التقدميين تتعلق بالمرأة، واستثمره جيدا في التأثير على الفتيات – لكنها على أيّة حال كانت مرحلة وكان عمر لا يحتمل أن يتوقع منه ربما أكثر من ذلك، وربما ما ساهم في تعميق تلك الميول أن شخصيتي كانت تتسم بشيء من التمرد كما قلت سابقاً.

 

 

 

التقائي بنجيب وصداقتي معه

 

المهم سافرت إلى القاهرة، وأنا هنا لا أريد الحديث عن رحلتي تلك رغم أهميتها، لأن هذه الكتابة معنية بتعرّفي وعلاقتي مع نجيب سرور، لذا فأنا سأمر مباشرة إلى الموضوع وانطلق من نقطة لقائي وتعرّفي به. وقد كان ذلك في أواخر سنة 1971 وأعتقد أن الشهر كان نوفمبر، كنت حينها قد تجاوزت سن الثامنة عشر بثلاثة أشهر، وأقيم في تلك الآونة بشقة بمنطقة [مدينة الأعلام] خلف مسرح البالون، مع ثلاثة أصدقاء ليبيين بقينا معاً منذ بداية وصولنا إلى القاهرة، وذات يوم بينما أنا أعبر الشارع الفاصل بين مدينة الأعلام والعجوزة، والذي يوازي مسرح السامر، وعند موقف لسيارات الأجرة إذا بي ألمح شخصا مهلهل الثياب تقريباً ينسدل شعره الناعم على فوديه وعينيه باستمرار فيرفعه بأصابع يده اليمنى كل دقيقة تقريباً، وبحركة عصبية ومتوترة، كان يتحرك جيئة وذهابا في خط مستقيم بمسافة حوالي عشرة أمتار بجانب سيارات الأجرة المتوقفة في انتظار الركاب، كانت حركته مشحونة بالانفعال والقلق – نفس الحركة تقريباً نشاهدها في الأفلام والمسلسلات المصرية للرجل وهو خارج غرفة الولادة بالمستشفى منتظرا سماع خبر عن زوجته ومولوده الجديد – كان نجيب يعبّ أنفاس السجائر بسرعة وعصبية وينفثها في الهواء بضيق واضح. توقفت أمعن النظر في هذا الرجل محاولا تذكر أين يا ترى رأيته، إذ كنت شبه متأكد من أنني أعرفه، وأن ذاكرتي تحتفظ به وكشخص ذو أهمية بالنسبة لي، رغم إن هيئته – في الواقع وللأسف الشديد – لم تكن توحي بذلك، وبقى التساؤل معلقا أين يا ترى رأيته؟ أو أين التقيت به؟ لكن يبدو أن هذه الذاكرة المسكينة تواجه صعوبة حقيقية في سحبه من خزانتها، خاصة وأن المسألة لم تتعدى التعرف به عبر صورة له بمجلة ومنذ أمد بعيد، لكن وفجأة لمع في عقلي وكالبرق تذكري لتلك الصورة وربطها بالاسم، لكن بقى رغم ذلك قدر من الشك والتردد، ترى أيكون هو!؟ إنه هو بدون شك، لكن كيف!!؟ هل يعقل أن يكون هذا الشخص الرث الملابس، العصبي والمتوتر والمنكوش الشعر هو ذلك الشاعر الكبير/ نجيب سرور، والذي تكفيه تلك القصيدة التي يقول فيها: [نحن حبات البذار] أو [لا تقل مات فرج] ليكون مهما ومشهورا، وأنا في هذه الحالة من تشوّش الأفكار والمشاعر حسمت أمري وأنهيت تلك الحيرة وذلك التردد بقرار التقدم نحوه وسؤاله: عفوا لو سمحت، هل أنت الأستاذ/ نجيب سرور؟.

أدهشتني الإجابة غير المتوقعة على سؤالي ذاك بشكل كبير وخاصة من شخص مثله، إذ قال لي فورا وبشكل صريح ومحدد، وبدون حتى أن يسأل عمّن أكون: نعم أنا نجيب سرور، لكن أخبرني أولا: أمعك نقودا!؟، فقلت مندهشا ومرتبكا ومبتسما أيضا: نعم، ولكن ما مقدار النقود التي تسألني إن كانت بحوزتي أم لا!؟ قال: جنيه أو أثنين مثلا، فقلت له: معي أكثر من ذلك، فقال فورا: فلنأخذ تاكسي وبسرعة لو سمحت وسوف أشرح لك القصة في الطريق، تقدمنا من التاكسي القريبة منا وطلب مني أن أرافقه، وما إن جلسنا حتى طلب من السائق أن يتوجه وبأقصى سرعة ممكنة إلى [ماسبيرو] مبنى الإذاعة والتلفزيون، ثم التفت إليّ وقال: شكراً جزيلاً، كما أنني أتأسف على ما بدا لك مني ربما كانعدام للّياقة، ثم أردف، والآن هل لي أن أطلب منك أن تعرّفني عن نفسك؟ فقلت: أنا ليبي واسمي عبدالعظيم البشتي، فقال: أهلا وسهلا وفرصة سعيدة إذ أتشرّف بمعرفتك، وأنا أكرر أسفي واعتذاري إذ أتي تعارفنا بهذه الطريقة الغريبة وغير الطبيعية من جانبي، فقلت متهلل الوجه غير مصدّق كوني جالس فعلاً مع هذا الشخص، وأنا على درجة كبيرة من الانفعال والغبطة والسرور: أنا من تشرّف بمعرفتك واللقاء بك مباشرة، فأنا في الحقيقة أعرفك وقرأت عنك وعن أشعارك ومسرحياتك منذ فترة، وقد رأيت صورتك بإحدى المجلات منذ سنوات، وتلك الصورة وحدها هي التي مكنتني من التعرّف عليك الآن، رغم أنني في الحقيقة كنت متشككا في البداية – وفي الحقيقة مما ساهم بذاك التشكك إضافة إلى أن معرفتي بشكله لم تتعدى رؤية لصورته ومنذ سنوات كما قلت، فإن هيئته لم تكن لتدلّ عليه، أو بالأحرى تليق به وبأديب وفنان مثله – فردّ، وكأنه قد خمّن ما يدور بداخلي: لعلّي أكون قد تغيّرت قليلاً أو ربما كثيراً عن تلك الصورة التي رأيتها، فأوضاعي صعبة وحالتي الصحية وحتى النفسية ليست على ما يرام، على أيّة حال أكرر أسفي على الطريقة الفجّة التي طلبت بها نقودا منك، أرجو أن تفهمني وتتفهّم الظروف التي دفعتني لذلك وتعذرني، ولعلي قمت بما قمت به لإحساسي بأنك ستتفهم وتعويلي على ذلك. والحكاية إنني مشترك في تقديم مسلسل إذاعي من عدة حلقات، أتقاضى عن كل حلقة منها مبلغ خمسة عشر جنيها، والآن هو موعد التسجيل وأنا لا أملك قرشا يمكنني به أن أستعمل وسيلة مواصلات أستطيع بها الوصول إلى مبنى الإذاعة، وفي الحقيقة أنا لا أدري لماذا أصلا خرجت من بيتي وأنا أدرك جيدا أنني سأرجع إليه ثانية، طالما سوف لن أتمكن من اللحاق بموعد تسجيل هذه الحلقة والتي أطمع في أن أتقاضى أجرها الفوري لأنني في أمسّ الحاجة إليه، لكن ربما كان مجرد حدسا أو أملا في أن ألاقي شخصاً أعرفه قد يساعدني في الوصول إلى مبنى الإذاعة، لكنني انتظرت طويلاً دون جدوى حتى كدت أن أفقد الأمل إلى إن هبطت عليّ من السماء - كما يقال – في اللحظات الأخيرة وحصل مني ما حصل، إذ تقدمت إليك بطلبي مباشرة وبهذا الشكل من الاستعجال حتى يمكنني إنقاذ الموقف، لهذا فأنا شاكر لك شكراً جزيلاً لما صنعته معي وتحمّلك لفجاجتي (وأكمل ضاحكاً في الحقيقة شحاذتي!) وعلى أيّة حال أنا يسعدني جدا التعرّف عليك وإذا كنت لا تمانع ولديك متسع من الوقت أرجو أن تصعد معي إلى الأستوديو وتنتظرني قليلاً حتى أنهي تسجيل الحلقة [وأقبض المقابل الكبير والمجزي، قالها بسخرية ومرارة!!] ثم نذهب معاً ونجلس بمكان ما لندردش قليلا، فلم يكن بوسعي بالطبع إلا أن أرحّب بالفكرة متمسكاً ومتشبثاً بهذا الحدث الهام والتاريخي بالنسبة لي، وأن أجلس وأتبادل الحديث لأتعرّف بشخص هو بقامة وأهمية نجيب سرور، فقلت له: بأنني أرجو أن يكون وقته فعلاً يسمح بهذه الجلسة، وأن لا يكون ذلك فقط بدافع المجاملة لي على حساب شغل أو التزام أو موعد سابق، فردّ بسخرية: - وهذه عادته دائماً كما عرفته فيما بعد – إنا فعلاً ألغيت اجتماعا مع وزير الثقافة، وأجّلت الذهاب إلى مدير المسرح القومي الذي يطلبني على استعجال، كما إنني لا أفكر هذا اليوم لا في الذهاب للمعهد العالي للفنون المسرحية لإعطاء محاضرتي ولا في المشاركة في الأمسية الشعرية المدعو قائلاً لها وإنني سألغي موعد (البروفا) للمسرحية التي أقوم بإخراجها – ثم استطرد قائلا، بأنه ليس لديه من هذه الأشغال أو الالتزامات أو المواعيد التي ذكرت شيئاً، عدا موعد يومي وثابت مع أصدقائه على كراسي مقهى ريش.

وهذا ما كان، وصلنا أمام مبنى الإذاعة، نزلنا من سيارة الأجرة بعد إن دفعت للسائق ما طلب ثم دخلنا المبنى، سأل أحد حراس المبنى عن هويتي، فرد نجيب بلهجة يشوبها قدراً من الصرامة قائلاً:  الأستاذ صديقي، وهو لم يدري حينها دون شك كم أسعدتني تلك الجملة [الأستاذ صديقي] وكم شعرت بسببها من فخر وزهو فأنا لم يكن في مخيلتي مطلقا طبعا ولا في نطاق أحلامي حينها أن أصبح يوما صديق لهذا الشاعر والمسرحي والمناضل الكبير. صعدنا الدرج سوية لنلتقي بالممثلة سهير البابلي وهي تنزل الدرج، صافحت هي نجيب بحرارة، ثم قدّمني لها قائلاً نفس الصفة السابقة تسبق اسمي والتي قالها لحارس المبنى، ثم قال موجها الكلام لي: أنت أكيد تعرف الفنانة سهير البابلي، فصافحتها أنا أيضاً مؤكدا: ومن لا يعرف هذه الفنانة الشهيرة، تركناها صاعدين إلى إن وصلنا مكان الأستوديو الذي يجري فيه تسجيل الحلقات الإذاعية، وفي صالة للانتظار محاذية لهذا الأستوديو تركني نجيب واعدا إيّاي بأنه لن يتأخر كثيرا، ودخل هو لينهي عمله، انتظرت جالسا على كرسي متأملا في الوجوه التي تمر أمامي، فبعضها لفنانين وإعلاميين أعرفهم وبعض الوجوه الأخرى التي لا أعرفها، سارحا بخيالي ومعيدا شريط لقائي بنجيب والحديث الذي دار بيني وبينه كاملا، كلمة كلمه وحرفا حرفا، ولم يستطع عقلي استيعاب ما رأيت وما سمعت، تساءلت بذهول واستغراب وبدهشة وألم: كيف لفنان وشاعر كبير كهذا أن يصل به الأمر إلى هذا الحد، حدّ أنه لا يملك قرشا في جيبه، ولا يمكنه ركوب وسيلة مواصلات إلى مبنى الإذاعة، وأدركت بالطبع وبوعيي المحدود حينها إن هذا هو حال من لا يريد أن يبيع نفسه ومن يحب وطنه بصدق ولا يرضى النفاق والتزييف، وهذا هو حال من ينتقد ويصرّ على موقفه واختلافه، ومن لم ولن تكن أفكاره ومبادئه مادة للمساومة أو للبيع والشراء، هذه كانت إجاباتي السريعة حينها على تساؤلاتي تلك، مما أعطاني إحساسا وتوقّعا مبدئيا بحديث شيّق ومثير يمكّنني من التعرّف على تجربة إنسان وطني وتقدمي يعاني مثل هذه المعاناة، شرد ذهني أيضاً في المكان الذي أنا جالس فيه، وقلت في نفسي ما الذي أتى بشاب مثلي ليبي الجنسية وعمره ثمانية عشر عاما من قرية بمدينة الزاوية، للجلوس بهذه القلعة الإعلامية الشامخة والتي طالما ألهبت بإذاعاتها وبرامجها أفئدة المواطنين العرب وعبأتهم باتجاه خطاب إعلامي وطني تحرري معادي للاستعمار والقوى الامبريالية، وما مثلته من منبر للثقافة والوعي عبر كل فعالياتها الثقافية والإبداعية من ندوات ومسلسلات وأغاني، ماذا أفعل أنا عبدالعظيم في هذا المكان!!؟؟. كنت لم أزل سارحا في خيالاتي وأفكاري تلك، لم ينتابني أي إحساس بالملل أو القلق من ذلك الانتظار الذي أضنّه دام نحو الساعة، إذ بالأستاذ/ نجيب يناديني وهو يقترب منّي مبتسما ومعتذرا، أفقت من شبه ذهولي مستجيبا لندائه بالوقوف والتوجه نحوه، نزلنا الدرج وهو يكرر الاعتذار لاضطراره لتركي ذلك الوقت الذي اعتقده طويلاً، بينما أنا لم أحسّ به مطلقا وسرعان ما مر بالنسبة لي، قال: إنه يعتذر لأنه تركني من أجل مسألة (هايفه) حسب تعبيره، إذ أن المسلسل الذي يشارك فيه - حسب رأيه – لا يستحق وليس بمستوى أن يشارك فيه لولا حاجته للمقابل المادي لهذه الحلقات، والذي قيمته الزهيدة أصلا لا تستحق هذا العناء، لكنه أردف: [إيه اللي رماك ع المر!؟]، حينها كنا قد وصلنا إلى خارج المبنى، طلبت سيارة أجرة، وحين ركبنا سألني نجيب: هل تحب أن تذهب إلى مكان محدد؟ فرددت عليه: بأنه من يجب أن يختار المكان، مضيفا أنني لا أرتاد المقاهي عادة ولا أعرف الكثير منها، فطلب من السائق على الفور أن ينقلنا إلى ميدان طلعت حرب، قائلاً لي: سنذهب إلى مقهى بسيط يرتاده دائماً، ويرتاده العديد من الكتاب والمثقفين والسياسيين والفنانين اسمه [مقهى ريش]، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع بها باسم هذا المقهى الذي عرفت فيما بعد بأنه شهير حتى على مستوى العالم العربي.

وصلنا إلى المقهى، كان الجو في ذلك المساء جميلاً بما حمله النسيم الخفيف من رطوبة منعشه، اختار نجيب طاولة خارج المقهى، صافح البعض وصافحه آخرون، كما أتي البعض الآخر من أماكنهم لتحيته، جلسنا ثم سألته على الفور: ماذا تريد أن تشرب، فأجاب: أريد زجاجة بيرة، وهكذا ناديت على النادل وطلبت منه إحضار زجاجتي بيرة لكلينا، دخلنا في فترة صمت كنت حينها في حيرة وأنا أحاول البحث عن مدخل أفتتح به دردشة أو حوار معه، وكلما طال صمتي زاد قلقي، توتره هو أيضاً – والذي لا أعلم سببه بالطبع – كان واضح، لكنه كان يحاول مجاملتي باستمرار بابتسامات وببعض التعليقات المبتسرة، حيث كرر قول: أهلا وسهلا، فرصة سعيدة وغيرها من عبارات المجاملة، وفجأة انتهت رحلة تفكيري في إيجاد مدخل لأي حديث بأن سألته: لقد قلت لي أنك غير مرتاح بل ربما غير راغب في المشاركة في هذا المسلسل الإذاعي لولا حاجتك لمقابله المادي، فما هو موضوع هذا المسلسل؟، وكأنه كان ينتظر مثل هذا المدخل – أو ربما أي مدخل – كي يخرجنا من حالة الصمت إذ قال على الفور، وكان حديثه يتسم بتهكم لاذع محمّل بالكثير من المرارة وبشكل مستمر، كما لاحظت طوال فترة علاقتي به [أعتقد أن نقل حديث نجيب ابتداء من الآن باللهجة العامية المصرية سيكون أكثر حيوية ودلالةً وعمقاً وأكثر ثراءً وغنىً، وأن اللغة الفصحى ستفقده الكثير من قيمته وحرارته بل ربما أيضاً دقة معانيه ومدلولاته ونكهته] قال: يعني فكرك همّ اولاد الكلب دول يفتحولنا الإذاعه والتلفزيون بتوعهم عشان نقول إللي احنا عايزينه، دول حتى يبقوا مجانين لو عملوا كده، وزي ماقلتلك لا فيه موضوع ولا حاجه أنا شاركت بس عشان خاطر واحد من الأصدقاء طلبني، وهو أكيد حاسس ان دا خدمه ليا وبيني وبينك أنا فعلاً محتاج قوي للمبلغ التافه ده، وختم كلامه مضيفا: الله يلعن أبو القرش، ويلعن أولاد الكلب دول اللي مايدّوكش حقك إلا لو عملت أراجوز.

كان أول لقاء بيننا، تحدّثنا كما لو أننا نعرف بعضنا البعض منذ زمن طويل بكثير من العفوية والارتياح والثقة المتبادلة، وللحقيقة فقد كنت متسائلا ومستفسرا ومستمعا في أغلب الوقت، أعبّ وأنهل من ذلك المخزون المتنوع والثري، ومن تلك التجربة بتاريخها الغني والمليء بالأحداث والمواقف وزخم الفاعلية المتنوع وعلى كل الأصعدة من سياسية إلى فكرية وثقافية، ولم يكن يقطع حديثنا الثنائي من آن لآخر إلا تحية أحد الداخلين أو الخارجين من المقهى لنجيب، أو وقوف أحدهم لتبادل بعض الكلمات معه، كان حينها يصرّ على تعريفي به وتعريفه بي، كنت قد سمعت بأسماء بعض منهم، حيث كانوا كتابا وأدباء معروفين، ولم أكن قد سمعت بالآخرين، كان حديث نجيب يتسم في أغلبه بالتهكم والسخرية المرّة من الواقع والأشخاص، وكان أبرز ممن عرفت في ذلك اليوم الروائي نجيب محفوظ، والشاعر أمل دنقل، وسياسي وكاتب كبير أعتقد أن اسمه [إبراهيم عامر]، كان الحديث في مجمله مهما وشيقا وأثار فضولي في الكثير من جوانبه، وقد كانت كل تلك الآراء والأفكار التي طرحت – رغم إن بعضها كان في حينها يفوق قدرتي على استيعابه والإلمام به – تعتبر عناوين هامة تحتاج إلى مزيد من الحديث والحوار والنقاش، أمّلت نفسي بحدوثه قريبا، وقد كان ذهني منشغلا فعلاً وبشكل أساسي في التساؤل حول ما إذا كان لقاءنا ذاك ستتلوه لقاءات أخرى أم لا؟، وما إذا كانت تلك العلاقة سيكتب لها الاستمرار؟، أم أن هذا اللقاء سيكون لقاء عارضا ويتيما، أدرك أنني طرف وقد أكون مهم وحيوي في الإجابة على هذا التساؤل وتحديد شكل العلاقة ومستواها وحدودها، لكنني في الحقيقة لم أكن قد عرفت بعد معرفة جيدة الشخص الذي أتعامل معه، لا بل إنه شخصية محيّرة وقد تكون مربكة بعض الشيء لحدتها وتوترها الزائد، وأيضاً لحساسيتها المفرطة، وهذا ما استطعت أن أكوّنه في ذهني كرأي في هذا الإنسان من خلال تلك الجلسة، وهذا ما جعلني أظن وأتصوّر إن رغبتي في استمرار العلاقة وتطورها ربما قد لا تعني كثيراً الطرف الآخر، وفي النهاية وجود علاقة واستمرارها مرهون دون شك بإرادة طرفين، لكنني كنت موقنا أنني قد أوصلت له إحساسا وانطباعا مريحا عني وبأنه يتعامل مع شخص – رغم صغر سنّه نسبيا – لكنه يمتلك قدرا لا بأس به من النضج والرصانة، وأيضاً اهتماما وإلماما لا بأس به بالقضايا العامة سياسية كانت أم ثقافية، كل تلك التساؤلات وغيرها كانت تدور سريعا في ذهني وتقلقني بعض الشيء حول الإمكانية الواقعية لاستمرار تلك العلاقة، والتي كانت في الواقع رغبة وأمنية بالنسبة لي. دامت تلك الجلسة حوالي ثلاث ساعات ولم أكن أريدها أن تنتهي في الحقيقة، لاحظت ونحن في نهاية الجلسة تقريباً أن نجيب لم يكمل زجاجة البيرة الأولى التي أمامه، بينما أنا أكملت اثنتين أو ربما ثلاث (وقد لاحظت طوال ما تلى من علاقتي به إنه يطلب البيرة دائماً، لكن الزجاجة الوحيدة تبقى غالباً أمامه طوال الوقت، أي أنه لا يكثر الشراب لكنه يعتبر نفسه سكرانا ويعتقده الناس كذلك، ولم يشذ عن تلك القاعدة ويشرب كثيراً إلا مرات نادرة)، كانت تلك جلسة رائعة واستثنائية بامتياز ولا أبالغ إن قلت تاريخية، إذ كانت رؤيتي وتقييمي لها كالآتي: ما الذي يتمناه شاب وطني ويساري مثلي يرغب في أن يطوّر وعيه وثقافته ويعمّق مفاهيمه الفكرية الأولية البسيطة، بل أيضاً ليؤكد لنفسه بزهو إنه ضمن دائرة هؤلاء السياسيين والمثقفين التقدميين، وبالأخص إن يكون مع أكثرهم تمردا. وفجأة أخبرني نجيب معتذرا عن اضطراره للمغادرة – رغم استمتاعه بالحديث على حد قوله – لأنه يتوجب عليه أن يشتري حليبا لأبنه [فريد]، والذي لم يتجاوز حينها بضعة أشهر، وأردف: هذه المهمة كان عليه أن ينجزها بمجرد خروجه من مبنى الإذاعة، لأنه ترك فريدا جائعا وفي أمسّ الحاجة لهذا الحليب، لكنه تقديرا واحتراما لي، وإعجابا بما قمت به نحوه حبّذ أن يجاملني ويجلس معي للتعرّف بي أكثر وليعبّر لي عن شكره وتقديره. كان ذلك إطراء كبيرا فرحت واعتززت به كثيرا، شكرته بدوري على منحي هذا الوقت وعلى تلك الجلسة الرائعة والمتميزة والتي لا تقدّر بثمن بالنسبة لي، وأكدت له إن ما قمت به لا يعدو أن يكون واجب في غاية التواضع، وإنه كان شرف لي أن أقدّم تلك الخدمة البسيطة لشخص مثله، وحين قام عبّرت له عن تمنياتي بتكرار مثل هذا اللقاء، فأكد على ذلك قائلاً إنه سيسعده ذلك، ثم سألته: ما إذا كان مقيما قريبا من المكان الذي قابلته فيه حتى يمكننا العودة معاً لأنني أيضاً مقيم هناك، وعندما أكد ذلك خرجنا سوية وأوقفت سيارة أجرة طالبا منه أن ينقلنا إلى مدينة الإعلام، ونحن في طريق العودة عرض عليّ ما اعتبرته بفرح وسعادة غامرة تعبير عن رغبة منه في استمرار العلاقة، إذ قال لي: إذا لم يكن لديك مانع ووقتك يسمح بذلك أرجو أن تذهب معي إلى بيتي لتعرف مكان سكني، وأيضاً لأعرّفك بزوجتي [ساشا] وابني [شهدي]، فوافقت بالطبع معبراً عن أن ذلك يشرفني جدا ومصدر سعادة لي، ما إن وصلنا موقف سيارات الأجرة الذي التقينا به وانطلقنا منه إلى الإذاعة حتى طلبنا من السائق التوقف وهبطنا، ذهبنا مباشرة إلى شقته والتي لم تكن تبعد إلا عشرات الأمتار، وهي لم تكن بعيدة عن مقر سكني أيضا، فتح باب شقته وطلب مني مباشرة الدخول مع أنني كنت أنوي الانتظار قليلا، طلب مني الجلوس في صالة صغيرة قبالة الباب على كراسي (أشبه بالصالون)، فقط كنبة وكرسي عتيقان وباليان، قابلت أولا ابنه شهدي والذي كان في حوالي التسع أو العشر سنوات حسب ما قدّرت، جلست على الكرسي بينما دخل نجيب إلى الغرفة الوحيدة بتلك الشقة حيث تنام ساشا والولدين، أما نجيب فقد كان ينام على كنبة الصالون، والذي كان يوجد به كل كتبه مكوّمة على الأرض وعلى أرفف عتيقة، وقد كان حسب ما عرفت لاحقا يسهر جالسا على تلك الكنبة إلى ساعة متأخرة من الليل وأحيانا حتى الصباح منكبّا على القراءة، ثم بعد أن يغالبه النوم نعاسا وتعبا ينام في مكانه ذاك، وهو على تلك الحالة طوال الوقت. بعد دقائق أتت ساشا حاملة فريد في حضنها، وفي اليد الأخرى صينية بها أكواب من الشاي، رحبّت بي بلهجتها المصرية - [المكسّرة] لكنة الخواجات -، اعتقدت أنها استحت قليلاً من فقرها، إذ كانت تحمل ابنها فريد شبه العاري من أي ملابس وهو يبكي من الجوع، كانت ساشا متجهمة بعض الشيء، علمت لاحقا إنها كانت غاضبة من نجيب على تأخّره حيث كانت تنتظر أن يأتي إلى البيت مباشرة حاملا معه مبلغ الخمسة عشر جنيها - أجرة الحلقة الإذاعية التي شارك في تقديمها – ليتمكنوا من شراء حليب لفريد، لكنه كان قد قضى كل ذلك الوقت معي في مقهى ريش – لا أدري ما إذا كان ذلك بسبب مجاملته لي أم ناسيا أو لا مباليا - لذا استأذنني في أن يخرج لشراء الحليب من محل بقالة مجاور طالبا منّي البقاء لانتظاره، فقلت له إنني أفضّل الذهاب معه، خرجنا سوية قاصدين المحل الذي يتعامل معه، طلب منه نجيب لتران من الحليب، لكن صاحب المحل فاجأه – وبطريقة غير لبقة – مطالبا إيّاه بأن يسدد دينه السابق أولا وإلا فأنه لن يعطيه شيئا، فقال نجيب: إنه سيدفع ثمن هذا الحليب مع دفع جزء من الدين السابق، لكنه لن يتمكن للأسف من دفع كل الدين، فأصرّ الرجل – بوقاحة تقريباً – على ضرورة أن يدفع كل دينه وإلا لن يعطيه شيئا، حينها تدخّلت أنا لأبلغه بأنني سأدفع باقي الدين، وهكذا دفع نجيب خمسة جنيهات من الدين السابق مع ثمن الحليب الذي يطلبه بينما دفعت أنا باقي الدين والذي لم يتجاوز السبع جنيهات، كما اشتريت بعض الأغراض البسيطة الأخرى من خبز وجبن وزيتون وغيرها من الأشياء التي لا أذكرها الآن ثم رجعنا عائدين إلى البيت، جلست معهم بعض الوقت شربنا خلالها أكواب أخرى من الشاي ودردشنا معاً قليلاً وبمشاركة ساشا وقد أصبحت أهدأ الآن وأقل غضبا وتوترا، بعد ذلك قمت مستأذنا بالمغادرة، ودّعاني شاكرين مع الإلحاح عليّ بضرورة تكرار الزيارة، ودّعتهم وخرجت عائدا إلى شقتي، في الطريق امتلأت نفسي بهجة وحيرة وذهولا مما مر بي في هذا اليوم الاستثنائي والمليء بما لم يكن يخطر لي على بال، واستعدت تفاصيله كاملة وأنا في حالة اغتباط وحماس ودهشة وأيضاً توق إلى أيام تحملها لي هذه العلاقة في طياتها، هذه العلاقة التي تبدو لي فريدة وربما أيضاً غريبة وأقرب إلى المغامرة وفق هذه البداية المشحونة، هذه العلاقة التي يبدو أنها ستستمر، لكن كيف؟ وما شكل الصيغة التي ستأخذها ومداها وعمقها وفائدتها وإمكانية استمرارها حقا؟؟ كل هذه التساؤلات في الحقيقة لا يمكن الإجابة عليها ولا التنبؤ بها الآن، لكنها دون شك جعلتني أشعر أنني أصبحت [إنسانا مختلفا] عما كنته قبلها، حتى وصلت شقتي والتي لم تكن تبعد إلا حوالي ثلاثمائة متر تقريباً وأنا منشغل الذهن بهذه الخواطر والأفكار. لا أدري الآن من وجدت من رفاق سكني بالبيت، لكنني أذكر إنني حكيت لهم ما حدث معي بالتفصيل وأنا في حالة حماس وانبهار لم يستوعبه ولم يقدر على فهم أسبابه من كانوا يستمعون إلي، إذ أنهم بالتأكيد يرون فيه أمر عادي. المهم أنه ومنذ ذلك اليوم أصبحت أتردد على شقة نجيب كثيرا، وما ساعد على ذلك، إضافة إلى رغبتي هو أيضاً قرب مقر سكنهم مني، وقد تطورت علاقة جميلة وحميمة سريعا بيني وبين ساشا أيضا، كنت أحضر معي أحيانا بعض زجاجات البيرة أشتريها من الشارع لنشربها بالبيت - وقد كانت بالطبع أرخص من المحل -، وهذا مما ساهم في بقاء نجيب فترة أطول بالبيت الشيء الذي كان نادر الحدوث، وقد فرحت بذلك كل من ساشا وشهدي، ولكننا بقينا نذهب كثيراً أيضاً إلى مقهى ريش، وإلى بعض المحلات الأخرى أذكر منها الآن [إكسلسيور]، وقد عرّفني على عدد من المثقفين والأدباء والشعراء والفنانين أذكر منهم الشعراء أمل دنقل وأحمد فؤاد نجم ونجيب شهاب الدين والقصاص عبده جبير وأيضاً عمّق علاقتي بالرسام ثروت فخري (الذي انتحر بعد ذلك بفترة) وغيرهم لا أذكرهم الآن. كان حينها ممنوعا من التدريس بالمعهد العالي للفنون المسرحية والذي عمل فيه لفترة وجيزة، كما كانت ساشا أيضاً قد طردت من عملها بالتدريس كمدرسة للغة الإنجليزية، وقد كانت هذه المؤامرة المخطط لها تصل حد حرمانه من أيّة إمكانية للنشر أو العمل بالمسرح تأليفا أو إخراجا، لكل ذلك فقد كانت أسرته تعاني بؤسا شديدا ماديا ومعنويا، فأن تكون كمثقف وشاعر ومسرحي مستهدفا – وفي بلدك - ليس فقط بمحاصرتك وحرمانك من دورك ونشاطك وفعاليتك الثقافية، بل يصل الأمر حد تجويعك أنت وأطفالك، وأصغرهم لم يتجاوز الستة أشهر، فإن ذلك دون شك يمثل قمة الاستخفاف بحقوق البشر وكرامتهم وحتى آدميتهم، وقمة الألم أن تمارس ضدك وضد أطفالك حرب تجويع قذرة، لا لشيء إلا لأنك تقول رأيك الناقد للأخطاء والعيوب والمحب لوطنك وشعبك وتريد أن تعمل ما تراه مفيدا وكنت في تلك الظروف أساعد ماديا بما أقدر عليه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

طرده من شقته وانتقاله للسكن معي

 

 بعد إن مرّت شهور قليلة على تلك العلاقة، قال لي نجيب خبرا كان له على نفسي من سوئه وقع الصاعقة حيث قال لي: إنني ونظرا لكوني لم أتمكن من دفع أقساط إيجار شقتي المتراكمة عليّ منذ فترة، فإن مالك الشقة أمهلني فترة وجيزة، إما أن أدفع بعدها كل تلك الأقساط المتأخرة أو مغادرة الشقة طواعية، وإن لم أفعل فإنه سيضطر لطردي. وفي الحقيقة ورغم هذه المهلة فإن الأمر لا يعدو كونه إخطار بالطرد بالنسبة لنجيب، حيث أنه لن يتمكن في ظروفه تلك من دفع أية أقساط حتى ولو لشهر واحد، فهو بالكاد يتوافر له ما يسد رمق أطفاله، وأيضاً للأسف الشديد لم يكن بإمكاني أنا أيضاً بالمنحة الشهرية المتواضعة التي أتلقاها من السفارة الليبية من تسديد كل ذلك المبلغ [رغم إنها نسبيا تعد معقولة جدا في تلك الفترة]، وأكمل نجيب: إن نهاية ذلك الشهر – والتي لم يكن يفصلنا عنها سوى عشرة أيام تقريباً – سيكون عليّ ترك الشقة، وأنا في الحقيقة لا أدري ما أفعل، لكنني سأقوم بمحاولة شبه يائسة بطلب المساعدة من بعض الأصدقاء، على الأقل بالسماح لساشا والولدين أن يقيموا معهم لبعض الوقت وأنا سأتدبر أمر إقامتي ولو في الشارع، وسيتيح لي ذلك فرصة أطول لأحاول تدبّر أمر حل هذه المشكلة العويصة إن كان هنالك ثمّة من حل لا أراه في الحقيقة يلوح في الأفق، وقال إنه سيبدأ غدا بالذهاب إلى صديق عزيز عليه – حسب وصفه – يسكن بالقرب منه، وطلب مني قائلاً:  لو لم يكن لديك مانع فأنا أرغب في أن تذهب معي، فقلت: أنا ليس لديّ أي مانع طالما هذه رغبتك، واتفقنا على أن نلتقي في شقته عند الساعة الخامسة من مساء الغد. وهذا ما حدث، التقينا في الموعد المحدد، وقبل خروجنا سألته عن اسم الصديق الذي سنذهب إليه، فقال إنه صديقي الكاتب – وكان حينها حتى مذيعا بالراديو – [بهاء طاهر] وخرجنا معا، كان جاره تماما غير أن العمارة التي يقطنها تعد نسبيا فخمة مقارنة بشقة نجيب، دق نجيب جرس الباب وفتح لنا بهاء بنفسه، تفاجأ الرجل نوعا ما خاصة من وجود شخص لا يعرفه – حيث لم أكن قد التقيته سابقاً - بينما هو يطلب منا الدخول، قائلاً:  أهلا وسهلا تفضّلا وأدخلنا إلى الصالون، بعد قليل من الترحيب والتحيات، وتقديمي لبهاء ثم تقديمه لي رأى نجيب أن يدخل في الموضوع مباشرة قائلاً:  - وبعد إن شرح الورطة التي وجد نفسه فيها والمتمثلة في إنذاره بالطرد من قبل صاحب الشقة، هذا الوضع المترتب عن ضائقته المالية - إنه يرجوه أن يستقبل ساشا والولدين ضيوفا لديه لمدة قصيرة ومؤقتة حسب تقديره، أو كما يأمل في الحقيقة – ولكنها بالطبع ليست معروفة بل بالأحرى قد تكون طويلة وصعبة الحل – أبدى بهاء أسفه لهذه الأخبار وقال بعض الكلمات الغامضة، لكنها توحي بالارتباك والتردد وكمن وجد نفسه في ورطة هو أيضا، الأمر الذي يبعث مسبقا على خيبة الأمل ولا يوحي بالتأثر الشديد والمفترض والذي يجعل المرء يؤمّل منه تقديم المساعدة المرجوّة، ثم نهض متعذرا بإحضار شيء نشربه، وحينما غادر علّق نجيب قائلاً:  بأنه ذاهب ليستشير، أو بالأحرى ليطلب الأذن من زوجته، رجع بهاء حاملا كؤوس العصير، ثم أطرق قليلاً وهو يسند جبهته بكف يده اليسرى مطأطئ الرأس، ليرفع رأسه بعد قليل ناظرا إلى نجيب – ليس في عينيه مباشرة - ثم متوجها إليه بالحديث قائلاً:  أنا في الحقيقة متأثر ومتعاطف جدا معك يا نجيب لكن للأسف الشديد لا توجد لدينا أيّة غرفة إضافية، وبقدر تعاطفي الشديد والرغبة في تقديم المساعدة، لكن ما باليد حيلة فليس بوسعي أن أفعل شيئا، عدا أن أقدم بعض المساعدة المادية التي أقدر عليها، وأدخل يده إلى جيبه ليخرج مبلغا من المال – دون شك كان قد وضعه بجيبه حين دخوله إلى غرفته – وقدّمه إلى نجيب، لكن نجيب رفض أخذ المبلغ شاكرا له استقباله لنا، ثم نهض طالبا مني أن نغادر – أذكر الآن أن المبلغ كان متواضعا، ولكن لا أعتقد أن رفض نجيب أخذه منه كان لهذا السبب – وغادرنا على الفور. لا زلت أذكر أن تلك الجلسة كانت ربما الأكثر إيلاما لي في حياتي، وقد ترقرق فيها الدمع في عيني، فأن يكون المرء شاهدا على مأساة [نجيب سرور] هذا الرجل الشديد الأنفة والكبرياء، والذي عانى ما عانى بسبب هذه الكبرياء، وبسبب إنه لم يرد ولم يقدر على بيع نفسه، حتى وهو يتعرض إلى رميه بالشارع هو وأسرته وكتبه والقطع المتهالكة والعتيقة مما يمكن تسميته تجاوزا أثاث بيته، وعن طريق الشرطة وفق تهديد صاحب الشقة له إن لم يغادر في الموعد المحدد طواعية، أن تعايش ذلك الموقف وتحسّه وتشعر به في عمق وجدانك وعقلك، لن يكون لك بدا من البكاء، ولو لم أستح، وأيضاً كي لا أزيد مواجع نجيب والتي لابد أنها تعضّ بأسنانها وأظافرها قلبه الطفل المليء بالحب، لولا ذلك لانهمر الدمع من عيني ولأجهشت حتى بالبكاء، كان موقفا مؤلما وقاسيا، أو بالأصح موقفا تراجيديا بامتياز، غير أن نجيب قال لي ونحن نغادر: – ورغم الحزن الشديد البادي على وجهه – إنه لم يكن يتوقع أكثر من ذلك لكن كان عليه أن يجرّب، فبهاء من أعز أصدقائه – على حد قوله -، تمتم ببعض الشتائم على بهاء وعلى زوجته – التي قال إنه يأتمر بأمرها – وعلى المسؤولين وعلى الظروف، ساخطا حانقا على كل الدنيا، جاهلا ماذا بإمكانه أن يفعل ولا يرى نفسه إلا مقيما تحت ظل شجرة على كورنيش النيل هو وأسرته حسب قوله، ورغم ألمه الشديد الذي تحسّه يخرج من كل مسامه مع محاولته السيطرة عليه وإخفائه، لكنه كان يقول مبتسما وبهدوء: إنه ليس الأول، بل ربما سيكون المصري رقم مليون الذي ينام في العراء مع أسرته. المهم إنه ودّعني بعد إن عرض عليّ الذهاب معه ليحاول مع صديق أو اثنين نفس المحاولة، فاعتذرت قائلاً:  إن لديّ بعض الأشغال – وفي الحقيقة لم أرد الذهاب معه لأنني لن أحتمل موقف كالذي سبق، وأيضاً اعتقادا من أن ذلك قد يخفف عنه إحراج وجودي معه وهو يقابل بالاعتذار وخيبة الأمل - وسوف نلتقي ليلا في شقته لأعرف ما جدّ معه.

ذهبت إلى شقتي ورأسي يمور بالأفكار، بل أحسّه يكاد ينفجر، فعقلي لم يكن قادرا على استيعاب ما يحدث وما يجري أمامي، فكيف يمكن لهذه الحياة ولهذه الظروف القاسية والبشعة أن تفعل بالناس وبخاصة شخص مثل نجيب سرور ما تفعل!!؟، كيف يمكن لهذه الحكومات الديكتاتورية والفاسدة أن تعمل على أن يُلقى - هكذا وبهذه البساطة والعبثية وبدم بارد - هو وأسرته وطفله الذي لم يكمل السنة تقريباً بالشارع!!؟، كيف يمكن أن يكون هذا هو مصير شاعر عبقري ومؤلف ومخرج مسرحي وناقد وأستاذ بالمعهد العالي للفنون المسرحية في مصر التي يحبها كما لم يحب أحد في الدنيا بلده، إنه عاشقها والمولّه بها، إنه مجنون ليلى، وليلى هي وطن اسمه مصر يقدّسه ويقدّس فقرائه ويعبد ترابه ويحب حواريه وأزقته، فكيف يحدث له ذلك!!؟ كيف!!؟ كيييييف!!!؟؟؟، أكاد أُجن، فأنا لم أكن قد جرّبت القمع حينها لكنني سمعت وقرأت عنه، لكنني لم أعايشه بالطبع، وخاصة منطق التجويع هذا، والذي يصل حد التهديد بالقتل. كل هذا كان يدور برأسي وذهني، وكان لابد أن يبرز في عقلي أمر آخر لم أكن قادرا على استيعابه والتعامل معه واحتماله، وهو الإحساس بالعجز عن المساعدة وتقديم يد العون، لكن إمكانياتي المادية المحدودة – كما ذكرت سابقاً، والتي تضطرنا نحن الليبيين أن نقيم معاً كمجموعات في شقة واحدة، وأحيانا يكون العدد حتى كبيرا، من أجل توفير باقي المبلغ للمصاريف الأخرى - لم تكن تسمح لي بحل هذه المشكلة العويصة، لكن هذا لم يدفعني للاقتناع بأنني عاجز لا حول لي ولا قوة، مما يضطرني للوقوف متفرجا على تلك الكارثة التي تكاد أن تقع، ما عساني أن أفعل حينها وحال وقوعها!؟ وكيف يمكنني أن أقابل نجيب وأنظر في عينيه!!؟؟، تدور هذه التساؤلات في خاطري وكأنني أتحمّل – على الأقل جزئيا – المسؤولية عمّا سيحدث وأنني ربما حتى تخليت عنه، لقد كنت في تلك الفترة حساسا وعاطفيا جدا، لذلك فقد كنت كثير البكاء حين أتعرّض أو أكون طرفا في موقف يهز المشاعر والوجدان مثل موقف كهذا أو حتى أقل تأثيرا، لذا فقد كنت طوال الطريق إلى شقتي أبكي بألم وحرقة، ولم أبالِ أن يراني أحد وأنا على تلك الحالة المثيرة للاستغراب عند البعض بدون شك، لكن ما كان يضطرم في عقلي وقلبي من حزن وألم كان بالنسبة لي يفوق القدرة على احتماله وكتمانه في داخلي، وأكثر من قدرتي على السيطرة على عواطفي، لكن مع ذلك فإن إحساسي بالعجز الكامل شلّ عقلي عن التفكير، حتى أن ما قررته ونفذته لاحقا لم يكن في إطار المتخيّل أو المعقول، بل يندرج في إطار التفكير الرغبوي أو بالأحرى الغرائبي والمستحيل التحقيق، لكن ذلك فعلاً ما فكرت فيه وقررت تنفيذه، إذ وبمجرد وصولي إلى الشقة وقد وجدت اثنين من رفاق السكن بينما الثالث كان غائبا، وما إن شاهداني على ذلك الحال وتلك الهيئة والتي تكشف عن قدر كبير من الحزن والألم، بل ومما زاد هلعهم حالة البكاء الذي صار مكتوما بعد إن تمكنت من السيطرة عليه حرجا ومكابرة، بادراني معاً بالسؤال - وهم في حالة من القلق والفزع -: ما المشكلة، نرجو أن تكون بسيطة؟، ولكن ما إن حكيت لهم القصة حتى عاودهم الاطمئنان والارتياح، بل ربما استغربوا واندهشوا من أن ذلك الأمر دفعني إلى كل هذا الحزن الشديد، والحقيقة أن رفاق سكني هؤلاء طيبون جدا، لكنهم كانوا أناسا بسطاء لم تكن ثمة أية صلة لهم بالسياسة أو الثقافة أو بالأفكار والنضال، ولا بعالم القمع والتنكيل بالسياسيين والمثقفين الذي يصل حد الاضطهاد المباشر والتجويع ومحاربة الإنسان المعارض في قوته وقوت أطفاله، لكنهم مع ذلك أبدوا تأثرهم وتعاطفهم الشديد، وقطعا كان أغلب ذلك التأثر تعاطفا معي أنا وإشفاقا عليّ، بينما الجانب الأقل كان تعاطفهم مع الوضع المأسوي الذي حكيت لهم عنه، والذي يمر به نجيب وأسرته، وهو الأمر الذي فاق بالطبع قدرة عقولهم البسيطة على استيعابه، خاصة عندما أخبرتهم أن هذا الرجل كاتباً وفناناً كبيراً ومشهوراً بمصر والعالم العربي، ولا أدري كيف بزغت في ذهني فجأة تلك الفكرة الغريبة بل والتي تكاد تكون مستحيلة من العدم، لابد إنها كانت كامنة في عقلي الباطن كحل وحيد لا وجود لغيره برأيي، لكن لأنه كان مستحيلا كما ذكرت سابقاً، فلابد أن الذي أيقضه في ذهني وجعل من الممكن الإفصاح عنه، هو حالة التأثر والتعاطف التي رأيتها بادية على وجهيهما، لذا بادرتهما بدون أي تفكير أو تردد، وبدون أي تصوّر أو تكهّن أو حساب لرد فعلهما قلت: سأطلب منه المجيء للإقامة معنا، وأرجوا مخلصا وشاكرا موافقتكما إن وافق هو على هذا الاقتراح، لكنني حينها على الأقل أكون قد قمت بما يتوجّب عليّ أو بالأحرى يمكنني فعله. لاحظت مباشرة الدهشة على وجهيهما بل ربما الذهول، - لكن ما أفرحني إنه لم يكون تعبير الاستهجان - واعتقد إن ذلك كان فقط بسبب إن هذا الطلب فاجأهم ولم يكن ليخطر لهم دون شك على بال، فكيف لأسرة غريبة تتكون من أربعة أشخاص أن يعيشوا معنا نحن الأربعة في شقة صغيرة مثل التي نعيش فيها لا يوجد بها إلا غرفتان وصالون!؟ المشكلة تكمن برأيهم في أن ذلك غير ممكن عمليا قبل أي اعتراض آخر، أيضاً ما لاحظته على وجوههم، هو تلك الحيرة التي تريد إجابة على سؤال: كيف سيكون شكل حياتنا عندئذ!؟ فنحن نعيش وحتى في شقتنا بالطبع حياة شباب متحررة كثيرا، حيث سهرات يتواجد فيها بنات وشرب خمر وغيرها من أشكال العربدة واللهو نسبيا، أخيراً حيرة التساؤل عن: لماذا نقحم أنفسنا نحن الشباب الليبيين البسطاء والغرباء عن هذا البلد، في صراع مثل هذا دائر بين شخص وحكومة بلاده!؟ ثم ألا يكون لموقفنا هذا تبعات نتحملها نحن دون ذنب، وربما يصل الأمر حد إعطاء بعد سياسي للمسألة. المهم إن هذه الحيرة الكبيرة ألجمت شفاههم عن الحركة، والدهشة جعلتهما يبدوان مذهولين تماما لعدة دقائق، وأخيراً تكلم أحدهما قائلاً:  نحن معك فيما تريد أن تفعل، وفيما تحس إنه واجبك، لكن قل لنا كيف؟ قلت: لا أدري كيف، فكرر الآخر: نحن معك كما قال زميلي، لكن أنت من يجب أن يقول لنا كيف. وأنا في الحقيقة لم أكن أعرف الإجابة على هذا السؤال، ولست غير راغب في الإجابة. وبينما نحن جميعا في هذه الحيرة إذ دخل زميلنا الرابع في السكن، وبمجرد إن حكي له أحد الأخوين الحكاية – وقد كان هذا الرابع في تقديري أكثرهم طيبة وإنسانية وربما قدرة على التضحية - ومثلي بدون أن يفكر في الإجابة على سؤال كيف، قال: فليتفضّل، ثم استطرد موجها الكلام لي: أنت رجل وتريد أن تقوم بما يتوجب على الرجال عمله وما أملاه عليك ضميرك، ونحن سنكون معك ولن نخذلك أبدا. لكن هذا الخطاب العاطفي والمليء بالمشاعر والجميل ومرتفع النبرة معنويا، لم يستطع أن يبدد حيرة الأخوين الآخرين ولا أنا إذ لم يجب على سؤال كيف اللعينة تلك. كان ذلك الصديق ومنذ أيام يفكر بالانتقال إلى شقة أخرى كسكن مستقل به حيث كان ينوي الزواج، لذا فقد بدأ حديثه كالتالي: أنا كنت سأنتقل لشقتي الجديدة خلال أسبوعين أو ثلاثة، لكنني بالإمكان أن أقدم الموعد وأنتقل بعد يومين أو ثلاثة أو ربما أسبوع بأقصى تقدير، لذا أنا أقترح أن تأخذ زوجة صديقك وأبناءها الغرفة الصغيرة التي بها السرير الفردي الكبير المزدوج، على أن ينام عبدالسلام وعبدالكريم في الغرفة الأخرى التي بها سريرين منفصلين، وهما كبيران يسع الواحد منهما حتى شخصين معا، أما أنت – يقصدني أنا – فيمكنك أن تتدبر أمرك بالنوم بالصالون مع صديقك نجيب، وقد كان بالصالون لحسن الحظ كنبتان، وافق الصديقان الآخران على الفكرة على الفور، مع تحفّظ واحد عبّر عنه أحدهما تمثّل في أنهما يرجوان أن لا يحدّ وجود أسرة نجيب من حريتهما بالكامل في بعض المسائل، وحيث فهمت قصدهما قلت: أولا أنا شاكر لكم جميعا هذه الموافقة وهذا الموقف الشهم والنبيل الذي لا يمكن لي أن أنساه لكم ما حييت، ثانيا أنا بالطبع لا أستطيع أن أمنعكم من شيء تريدون فعله ولا تستطيعون تركه فهذه شقتكم، وأترك ذلك فقط لتقديركم الخاص ومراعاتكم للوضع الجديد، وأنا فعلاً لا أريد أن أثقل عليكم (ومن الجدير ذكره هنا وللأمانة، فإن هذا الصديق قد حرم نفسه وبإرادته ووفق تقديره الخاص من أخذ حريته بالطريقة التي كان يقصدها).

اتفقنا أخيراً على كل التفاصيل، وشكرت الجميع وبحرارة وحب وتقدير عال لما قاموا به من أجلي أولا، ومن أجل صديقي الذي لم يكونوا قد عرفوه بعد، مضيفا: إنهم ربما لا يستطيعون تصوّر قيمة هذا الموقف النبيل الذي وافقوا على القيام به ومقدار ما يشكل من خدمة إنسانية سيمتنّ لها نجيب وأسرته والذين في الواقع كان مصيرهم الشارع، فقد سُدّت كل الأبواب في وجوههم، وها هو باب أخير مليء بالحب والتعاطف يُفتح أمامهم منكم أنتم الليبيون بالذات، بينما هم يرون أن مصر كاملة تخلت عنهم، أثرّ هذا الحديث أشد التأثير في نفوسهم، وقد استطردت قائلاً:  آمل أخيراً وأرجو أن لا تطول فترة إقامتهم هنا، فهي حتى بالنسبة لهم ستكون مؤلمة وموجعة حيث يجدون أنفسهم مضطرين للبقاء معنا، وسيحاول نجيب جاهدا وأعتقد أنه سيتمكن قريبا من تدبير أمره بشكل أو بآخر في إيجاد سكن بديل (وأنا في الحقيقة لم أكن متفائلاً كثيراً بما قلت لهم، لكنه كان نوع من تخفيف وطأة الأمر عليهم بأن حرمانهم من استقلاليتهم لن تطول، لأن نجيب سيجد حلاً).

لم أستطع الانتظار لأنقل إلى نجيب ما اعتبرته خبرا سارا ومنقذا له من ورطته، حيث إنني قد أدركت حجم الورطة وانسداد آفاق حلها، فذهبت على الفور إلى شقته أشعر بفرح وسعادة غامرة، وعندما وصلت وطرقت الباب فتحت لي ساشا، التي قد أصبح ينمو ويتطور بيني وبينها علاقة جميلة جداً، سألتُ مباشرة عن نجيب فقالت: إنه لم يحضر بعد، وأردفت لكنني لا أعتقد أنه سيتأخر، لأننا نريد بعض الطلبات الضرورية التي طلبت منه إحضارها بسرعة، غير أنها استدركت قائلة: لكنك تعرف مواعيد نجيب معنا منذ التقيته أول يوم، فهي مواعيد لا يمكن الوثوق بها أبدا، المهم أنها طلبت مني الدخول وانتظاره، جلستُ في الصالون، ذهبت تاركة إيّاي وحدي لبعض الوقت من أجل إعداد شاي لي، ولم تمر دقائق إلا وأحضرت صينية عليها كوبان من الشاي، لاحظت في عينيها قلق ما، كما أعطتني أيضاً انطباعا بأنها كما لو كانت تريد مفاتحتي بأمر لكنها تتردد في ذلك، غير أنها أخيراً وبعد القليل من عبارات المجاملات والسؤال عن الصحة والأخبار كالعادة – رغم أن ساشا تعدّ قليلة الكلام غالباً وإلى وقتنا هذا، وربما أصبحت الآن أفضل نسبيا – خرجت عن صمتها فجأة ودون مقدمات متسائلة: خرجتما من هنا معاً منذ عدة ساعات، فهل يمكنك أن تخبرني إلى أين ذهبتما؟، وحيث أن الأمر لم يكن سرا يتوجّب عليّ إخفاؤه عنها، فقد أخبرتها إنني ذهبت معه فقط إلى شقة [بهاء طاهر]، وحكيت لها كل ما جرى هناك، وإنه حال خروجنا من البيت قال لي نجيب أنه سيذهب ليطرق أبواب أصدقاء آخرين لبذل محاولات أخرى من أجل طلب المساعدة كما قال، وقد طلب مني أن أذهب معه، لكنني فضّلت أن أتركه يذهب لوحده لاعتقادي أن ذلك ربما يقلل من حجم الإحراج الذي سيعانيه مع وجودي معه في حالة إخفاقه في مسعاه. لاحظت أن وجهها غمره قدر كبير من الحزن والأسى، وأن عيناها اغرورقتا وكادتا تدمعان، لكنها تمكنت من منع ذلك وبحزم في اللحظة الأخيرة، لقد رأيت كم كانت تلك المرأة قوية وصلبة. ساد صمت ثقيل لبعض الوقت، قطعته بعد ذلك قائلة: ونحن في محنتنا هذه لا أملك إلا أن أشكرك كثيراً على مساعدتك لنجيب ووقفتك الأخوية معه والتي لم نجدها حتى من أقرب الناس إلينا، ونحن لن ننسى لك ذلك مطلقا - حسب قولها – وأضافت: لقد حكي لي نجيب عن كل ما قمت به من أجله وما قدّمته له من مساعدة مادية منذ لقائه الأول بك. كنت أثناء ذلك شارد الذهن في أمر آخر أراه الأهم الآن، إذ كنت أفكر في، هل يا ترى أخبرها بأن الأزمة قد حلت والمعجزة قد حدثت، وأن بإمكانهما الانتقال إلى بيتي، أم هل انتظر حتى يأتي نجيب لأخبرهما معاً، في الحقيقة وبعد حدوث – ما اعتبرته معجزة حقاً – بموافقة زملاء سكني على استضافتهم، كنت أخاف أن لا يوافق نجيب أو ساشا أو كليهما، باعتبار ذلك الانتقال يشكل ربما إزعاجاً كبيراً وخاصة لمن يقيمون معي، وأنهم يرفضون أو بالأحرى لا يستطيعون تحمّل أن يسببوه لي ولزملائي الذين لا يعرفونهم أصلاً، ولم أكن أعرف ممن أخاف ردة فعله تلك أكثر، أو من منهم يمكن أن يكون هذا هو موقفه، لذا خطرت لي فكرة أن استفرد بهما كلّ على حده لحمله على الموافقة، سواء بإقناعه أو حتى بالضغط عليه، لذا حسمت أمري ورأيت أنه من المناسب أن أفتح الموضوع مع ساشا الآن، فقلت: إنه وحسب تقديري الشخصي وقد أكون متشائما نوع ما – لأنني طبعا لست متأكدا من ذلك، فأنا لا أعرف بدقة طبعا حجم علاقات نجيب ولا أعرف ما هو مستواها ولا مدى عمقها – فإن نجيب لن يجد حلا لهذه المشكلة عند أيّ من أصدقائه، لذا فما رأيك في أن تنتقلوا للسكن معي في شقتي، كان هذا الخبر غير المتوقع مطلقا من قبلها، قد أصابها فعلاً بالدهشة والذهول، ولا أبالغ إذا قلت إنه كان صادم لها – بالمعنى المفرح والمحزن في نفس الوقت - ظهر ذلك بسرعة على وجهها وعينيها، وعندها وبدون أن تدرك ذلك وكأنه فاجأها لم تفلح في ما تمكنت من كبح جماحه سابقاً وهو انهمار دموعها، فانحدرت من عينيها رغم عنها دمعتان أحسست أنهما كانتا حارقتين، وكأن لسان حالها – باعتقادي – كان يقول: يا إلهي ما أتعس هذه الحياة وما أضيقها وما أشدّ قسوة الزمان وأيضاً البشر، ولكن كيف!!؟ من بين كل الناس المحيطين بنا، أصحاب وأصدقاء وأقارب نجيب، لا نجد أحدا يقف إلى جانبنا ويمد لنا يد العون والمساعدة، ليأتي هذا الشاب الليبي ابن الثامنة عشر والنصف، والذي لم نعرفه إلا منذ شهور قليلة لينقذنا من ورطتنا هذه (كل هذه الكلمات بالمعنى العام قالتها لي فعلاً بعد ذلك بعدة أيام)، لكنها خرجت من صمتها وشرود ذهنها ذاك لتقول: أنا لا أدري ما أقول، أنت فاجأتني وأدهشتني فعلا، ولا أعتقد أن ثمّة أيّة كلمة شكر أقولها لك الآن يمكنها أن تكون قادرة على التعبير عن مقدار الامتنان والتقدير الذي أحسّه تجاهك منذ عرفناك والذي أصبح الآن أكثر، لكن لنكن واقعيين، أولا أنا فعلاً لا يساورني أي أمل في أن نجيب سوف يتمكن من حل هذه المشكلة بل الأصح هذه الورطة الكبيرة لذا فلا خيارات أمامنا، والحقيقة إن أكثر ما يقلقني بالطبع هما الطفلان وأعتقد أنك بالضرورة تدرك ذلك وتتفهمه، لذا فمهما كان رأي نجيب، وأنا أعتقد أنه سيمانع متشبثا بأمل واهٍ، وأيضاً في محاولة منه لأن يعفيك أنت من هذا العبء، وأن لا يقع على عاتقك حل هذه الورطة، وحقيقة إن المنطق يقول أنه يكفينا ما سببناه لك حتى الآن وما قمت به من أجلنا ومساعداتك المادية المتكررة لنا، ثم سكتت برهة لتستأنف الحديث بعد ذلك سائلة إيّاي: هل تقيم لوحدك بالشقة؟ فأجبت: بصراحة وللأسف الشديد يسكن معي ثلاثة أشخاص الآن لكن أحدهم سيترك الشقة خلال أيام، فقالت: لابد أن الشقة كبيرة وكثيرة الغرف، ولأقطع عليها ربما سيل تساؤلاتها واستفساراتها أخبرتها بالقصة كاملة منذ تركت نجيب ذاهبا إلى شقتي، وعن الحديث الذي دار بيني وبين زملائي وكيف كانت مواقفهم، وعن عدد الغرف بالشقة وكيف ارتأينا ترتيب الوضع وطريقة إقامتنا جميعا معا. قالت: لا أدري ما أقول لكن العدد كبير في الحقيقة وسيكون هذا دون شك أصعب موقف وأكثر التجارب إيلاما عشتها وسأعيشها في حياتي، وتابعت - بانفعال شديد واغرورقت عيناها مرة أخرى بالدموع – قائلة: إن مقدار الشكر وحجم الامتنان الذي أحمله وسأحمله لك بالأساس وأيضاً لزملائك على هذا الموقف الإنساني والنبيل كبير جدا، وكذلك سيكون حجم إحساسي بالإحراج كبير أيضاً بسبب كون الإرباك والإزعاج الذي سنسببه لكم سيكون كبيرا جدا، بل ربما سيلازمني هذا الإحساس طوال فترة إقامتي معكم ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة، لكننا مع كل ذلك فإننا للأسف الشديد لا خيار أفضل لنا، بل في الحقيقة لا خيار لنا بالمرة، حاولت كثيراً التخفيف عنها قائلاً:  بأنه لن يكون هنالك إزعاج إطلاقا، بل أنا وحتى زملائي سنكون سعداء ومفتخرون بوجودكم بيننا، وبقيامنا بهذا الواجب الأخوي والإنساني الضروري لنجيب ولك وللأطفال، وستتأكدين بنفسك من ذلك لدى رؤية زملائي والحديث معهم، وبينما كنا في هذا الحديث دخل علينا نجيب ينوء تحت وطأة هذه المشكلة الكبيرة ويمشي متثاقل الخطوات والحزن يلوّن كل قسمات وجهه ويجعل عيناه منطفئتان، رحّب بي وطلب من ساشا إعداد كوبين من الشاي، وما إن خرجت ساشا حتى قال لي نجيب: ما من حل حتى الآن، ولا أعتقد أن حلا يلوح في الأفق، إنها مؤامرة متواصلة ضدي، يريدون تدميري وتركيعي، ذهبت إلى كل من اعتقدت أنهم أفضل الأصدقاء، لكنهم جميعا اعتذروا عن استضافة أسرتي ولو ليوم واحد، مع وعد أغلبهم لي – كذبا ونفاقا بالطبع – بأنهم سيسعون جاهدين لدى الدولة، ولدى جهات رسمية أخرى في محاولة تأمين سكن ولو مؤقت، وإن هذا أكثر ما يمكنهم فعله. لم أشأ أن أقاطعه بأن أنقل له ما أحمل من أخبار سارة، وددت انتظاره حتى يتم حديثه ودخلت ساشا حينذاك جالبة أكواب الشاي، وضعتها على المنضدة الصغيرة وجلست مستمعة إلى بقية الحديث الذي دار حول فشل مسعاه وماذا قال البعض منهم مع سيل من الشتائم موزعة على الجميع وعلى الزمن والظروف، وما إن أكمل حديثه بادرته ساشا قائلة: [مراد] – وكان هذا الاسم هو الاسم الذي استعملته طوال فترة إقامتي في القاهرة – قد تدبّر أمر توفير مكان إقامة لنا، وروت له كل ما سبق إن حكيته لها عن موضوع إمكانية إقامتهم معنا في شقتي، كانت نبرة صوتها متهدجة حينا ومتشنجة حينا ومستكينة غالباً وهي تريد ايصال حقيقة مفادها التالي: مهما بدا لك يا نجيب إن هذا خيال ولا منطقي بل ربما مستحيل الحدوث ولا يمكن القبول به والموافقة عليه، لكنه لا خيار أمامنا للخروج من ورطتنا والموقف الصعب الذي نحن فيه إلا الموافقة، ظل نجيب يسمع ساهما شارد الخيال، وحتى بعد إن أنهت ساشا حديثها بقى ذهنه يحلق بعيدا لا أدري أين وفيما يفكر!؟، لكنه فجأة نظر إليّ وقال: [نحن حبات البذار.. نحن لا ننمو جميعا عندما يأتي الربيع.. سيموت البعض من هول الصقيع.. وتدوس البعض منا الأحذيه.. ويموت البعض منا في ظلام الأقبيه.. غير إنا كلنا لسنا نموت.. نحن حبات البذار.. نحن إن متنا فمن أجل الربيع.. وإذا عشنا فمن أجل الربيع]، ثم توقف عن إلقاء القصيدة وقال مبتسما: كانوا عايزينا نموت من هول الصقيع واحنا نايمين تحت الكوبري لولا صديقنا الليبي الجميل (مراد)، اللي عمل موقف مافيش حد من اصدقانا المصريين عملو، وكانت هذه الجملة الأخيرة ما اعتبرته رد نجيب بالموافقة على استضافتي له، اتفقنا بعد ذلك على موعد الانتقال، ثم قال بأنه سوف يتدبّر أمر ما يمكن تسميته بأثاث شقته، وإنه لن يأخذ معه إلا ملابسه وكتبه فقط، وهذا ما أكدت عليه أيضاً ساشا، على اعتبار إنه لا يوجد له مكان بشقتنا، كما إنه أيضاً متهالك وبشكل يجعله لا يستحق النقل.

في اليوم المحدد الذي اتفقنا عليه لانتقالهم، والذي تم بعد التشاور مع زملائي في الشقة، وقد كان ذلك بعد خمسة أيام تقريباً، وكنا قد طلبنا في اليوم الذي قبله من المرأة التي كانت تشتغل في شقتنا بأن تهتم بالغرفة التي خصصناها لساشا وولديها، وذلك بنقل كل ملابسنا وأغراضنا منها إلى الغرفة الثانية، وأن تنظّفها جيدا، ثم تغطي الفراش بلحاف جديد. ذهبت أنا وأحد الزملاء إلى شقة نجيب – والتي لم تكن بعيدة عن شقتنا كما ذكرت سابقاً – لنطلب منهم أن يأتوا ولنساعدهم في نقل أغراضهم، حين وصولنا إليهم وجدناهم تقريباً مستعدّين، وقد وضعوا كل ملابسهم في حقيبتين، أما كتب نجيب فقد وضعها في صندوقين كبيرين من الورق المقوّى، كانت هذه هي كل أمتعتهم التي قرروا نقلها، انتظرناهم قليلا، تعرّف بهم حينها صديقي الذي كانت هذه هي المرة الأولى التي يراهم فيها وتجاذب مع نجيب خاصة أطراف الحديث، فشكره نجيب كثيراً واعتذر له عن الضيق والإزعاج الذي قال أنهم سيسببوه لنا – حسب رأيه - لكن زميلي رد بلباقة فائقة وعلى الفور: إنه لن يكون ثمّة مطلقا أي إزعاج لنا بإقامتهم معنا، وإنهم ماداموا أصدقاء إلى هذا الحد لصديقهم – قاصدا أيّاي – فهم يعتبرون أصدقائهم هم أيضا، وإن هذا من واجبات الصداقة، وواجب إنساني من الضروري القيام به، فقال نجيب: أتمنى على أيّة حال أن لا تطول فترة إقامتنا معكم حتى يخفّ عبئنا ولا يكون ثقيل عليكم، واستمر حديث الشكر والاعتذار والمجاملات ذاك وغيره لبعض الوقت، ثم أخذنا الحقائب وانطلقنا إلى شقتنا.

كنت قبل أن أذهب إلى بيت نجيب قد قررت الترتيب لاحتفال بسيط، لذا قمت بشراء بعض الحلويات والمشروبات الغازية وعدد من زجاجات البيرة، محاولين بذلك الاحتفال أن نعبرّ لهم إننا نحتفل بوجودهم بيننا ولسنا نتضايق منهم على الإطلاق، وكان الأخوان اللذان بقيا في الشقة قد قاما بترتيب وإعداد كل شيء على طاولة الأكل قبل حضورنا، لذلك وما إن دخلنا معاً ورحبا بهم زميلاي ثم قدم لهما نجيب شكره واعتذاره، طلبت من الجميع مباشرة الجلوس على الطاولة للاحتفال بهذه المناسبة السعيدة لنا - وأنا أدرك دون شك إنها لم ولن تكون أبدا مناسبة سعيدة بالنسبة لهما - وقد ضاق بهم الوطن وقفلت دونهم بيوت الأصدقاء، فلم يجدا بيتا يأويهما في كل مصر وفي كل بيوتها إلا بيت شباب ليبيين عزّاب، وفي الحقيقة لم تكن سعيدة حتى لي شخصيا، فأنا بدون شك أحبهم كثيراً وأفرح باستقبالهم وبأن يكونوا ضيوفا في بيتي، ولكن ليس في ظروف كهذه، وأدرك أن كلماتي هذه لا تعدو أن تكون محاولة أعرف مسبقا أنها غير مقنعة للتخفيف عنهم، وعلى الفور بدأنا في توزيع الحلويات والمشروبات، ثم اختار كل منا ما يريد شربه من شاي أو بيرة أو مشروب غازي، لكن نجيب وقبل أن يبدأ في احتساء كأس البيرة الذي أمامه قال: أريد أن أقول كلمة في البداية وأرجوكم سماعي، أولا أنا وساشا لا يسعنا إلا أن نشكركم جزيل الشكر على موقفكم الشهم هذا، وأنا في الحقيقة لا أجد الكلمات المناسبة التي يمكنني بها أن أعبّر لكم عن مدى امتناني لوقفتكم معنا في محنتنا العصيبة هذه والتي نرجو أن لا تطول لنجد لها قريبا حلا ما، لكن لا أنا ولا ساشا لن ننسى ما حيينا هذا الموقف النبيل والكريم، وكل ما أرجوه أن لا نشكل إزعاجا كبيرا لكم، إنني آمل فقط أن تكونوا متفهّمين ومدركين لطبيعة الظروف التي أدّت بنا إلى هذا المصير، وأعتقد أن [مراد] أخبركم بذلك سابقاً بالطبع. – فهززت رأسي بالإيجاب – ثم ردّ أحد الأخوة نيابة عنا قائلاً:  نحن حقيقة متفهّمين بالقدر الذي يجعلنا غير قادرين على التخلي عنكم ونرى ضرورة القيام بما قمنا به، وأرجو أن تعذرنا وتتفهم موقفنا أنت أيضاً حين نقول أن ظروفك هي شأن يخصّك، لأن فهمنا في الواقع يعتبر بسيطا، حيث لسنا مثقفين ولا نفقه في السياسة بالطبع، إننا فقط لا نستوعب ما يجري لك وما يحصل معك، لكن طالما أخونا وصديقنا [مراد] متفهم ومقتنع ومتعاطف معك بهذا الشكل، فنحن لا نملك إلا أن نتعاطف مع [مراد] وبالطبع معك. فشكرنا نجيب مرة ثانية مكررا إنه يتمنى أن لا تطول إقامته معنا ليخفف عنا العبء – هذه العبارة التي كررها كثيراً -، كما إنه طلب منا أن نتصرّف بحرية تامة ولا نقيّد أنفسنا وكأنهم غير موجودين معنا.

وهكذا استقر نجيب في شقتي وحسب ما رتّبنا سابقاً، كان زميلنا الذي قرر الانتقال والسكن بمفرده لأنه سيتزوج لاحقا وبعد فترة وجيزة، قد انتقل في صباح ذلك اليوم إلى شقة قريبة منا، أدخلت ساشا إلى غرفتها قائلاً لها إنها ستكون غرفتها مع الولدين، ثم أوضحت لنجيب إنه وأنا معه سننام على كنبتي الصالون هاتين – وكنا حينها قد انتقلنا لاحتساء البيرة والشاي بالصالون - وهكذا مرّت أيامنا الأولى ثقيلة بعض الشيء، فالجميع وجد نفسه في وضع غريب نسبيا، ساشا كانت تقضي أغلب الوقت في غرفتها حرجا، ونجيب الذي كان يسهر معظم الليل ويستيقظ بعد الظهر، يأكل قليلاً سواء أكانت الوجبة إفطارا أم وجبة غذاء إذا كانت قد جهّزت، ثم يخرج من فوره إلى أحد المقاهي بوسط البلد، والتي أكون فيها أحيانا معه وغالباً لوحده، كما كان حديث نجيب وساشا قليل نسبيا مع الآخرين – ما عداي أنا بالطبع – وقد كان ذلك ربما رغبة من طرفهما في ترك مسافة، اعتقادا منهما إنهما بذلك يعملان على عدم إزعاجهم، وأن لا يفرضان نفسيهما عليهم، ومن جانب زملائي أيضاً ظنّوا أن ذلك أريح للجميع، خاصة وأن المشتركات معهم كانت في الحقيقة محدودة، كما كان عائق اللغة الإنجليزية قد أثّر أيضاً في حجم التواصل والعلاقة مع ساشا، لكن زملائي حاولوا أن يعوّضوا عن ذلك غالباً باهتمامهم الكبير بشهدي حسبما أذكر الآن، حيث كانوا يأخذونه معهم – بعد موافقة ساشا بالطبع – إلى بعض المشاوير ويشترون له بعض الأغراض، الأمر الذي أسعد ساشا كثيراً رغم أنها كانت ترفض أحيانا متحججة بعذر ما، ولكن لم يمر كثير من الوقت حتى تطورت تلك العلاقة، وكنا نقضي جميعنا معاً وقتاً جميلاً، سواء في بعض الليالي عندما كان نجيب لا يسهر خارج البيت، حيث كنا نجلس لنسهر بالصالون ويحتسي البعض منا زجاجات البيرة، وكان نجيب يضفي على تلك السهرات جوا من البهجة والمرح بخفة دمّه ونكاته الدائمة، كما أصبحت ساشا أخيراً - وبعد توافر قدر لا بأس به من الألفة – تخرج أكثر من غرفتها لتجلس بالصالة أو تساعد (الشغّالة) في بعض شؤون المطبخ، وغالباً ما تقوم بمتطلباتها الشخصية بنفسها رغم ممانعة الشغّالة لذلك، كنا قد أصبحنا نتناول وجبة الغذاء معاً دائماً تقريباً، عدا بعض الأيام التي تكون فيها مشغولة أو نائمة أو خارج البيت – الأمر الذي كان نادر الحدوث حيث هي قليلة الخروج -، أما نجيب وفي حالة نهوضه من النوم قبل أن تجهّز وجبة الغذاء فهو عادة لا ينتظرها، إذ يطلب من الشغّالة كوب من الحليب ثم كوب من الشاي يدخّن معه سيجارتان أو ثلاث – فقد كان كثير التدخين – ثم يخرج دون أن ينتظر وجبة الغذاء، قدرة ساشا على الكلام باللغة العربية كانت قليلة، وبشكل لا يمكنها من التعبير عن نفسها بشكل واضح وإيصال فكرتها بشكل دقيق، لكنها غالباً ما تجد وسيلة ما للتواصل وتنجح في مهمتها، وحيث كانت لغتي الإنجليزية الأفضل قليلاً فإن ذلك كان يجعلني أعمل مترجماً بينها وبين زملائي في بعض الأحيان، لكنا كنا نستمتع ونحن نستمع إليها تتحدّث بلغة [الخواجات]. وهكذا وبعد عدة أيام بدأنا نتعوّد على بعضنا البعض ويتلاشى جو الفتور الجاد والرسمي. ومرّت الأيام تباعا على ذلك المنوال، إلى إن واجهتنا فجأة مشكلة أخرى، غير إنها كانت بسيطة وسرعان ما تغلبنا عليها وتمت معالجتها، وتمثّلت في احتجاج صاحبة الشقة التي نقيم فيها – وهي سيدة في الأربعين من عمرها تقريباً أو أكثر قليلا، كانت هي التي تعيل أسرتها اسمها [رتيبة]، اضطرّت لتأجير شقتها والسكن في [بدروم] عمارة مقابلة هي مسؤولة الخدمة على كل شققها، وقد كانت في الحقيقة تكنّ لنا مشاعر طيبة، ونحن بالمقابل كنا نحبها ونحترمها – احتجّت قائلة: إن العدد أصبح أكثر مما تتحمل الشقة استيعابه، كذلك أضافت: وما قصة هذا الرجل المصري وزوجته [الخواجايه]، وما علاقتكم بهما ليأتيا ويسكنا معكم، وغيرها من الاعتراضات الأخرى التي حرصنا أن لا تصل إلى مسامع نجيب، وتمكنت أنا من تسوية الأمر معها وإقناعها بأن هذا موقف إنساني، بل إن من واجبها والأجدر بها أن تقف معنا وتساعدنا، فهو إبن بلدها، وإن الأمر سيكون مؤقت بالطبع، وأضفت أخيراً بأنني سأراعي ذلك وأزيد من مبلغ الإيجار قليلا، وأعتقد إن ذاك كان هو مربط الفرس وأهم أسباب الجلبة التي أثارتها حول الموضوع بتلك الطريقة الاحتجاجية الكبيرة. توالت الأيام وبدأنا نتعود على نجيب وساشا والأولاد، وبدأ ينشأ بينهم وبين زملائي قدر من الألفة والاحترام والحب المتبادل. كان نجيب كما قلت سابقاً يخرج بعد الظهر في أغلب الأوقات، حيث كان يسهر أغلب إن لم يكن طوال الليل، ولا ينام إلا مع ساعات الفجر الأولى، وعندما يصحو من نومه يبقى قليلاً ثم يخرج ذاهبا إما إلى مقهى ريش أو مقهى [اكسلسيور]، ليعود عند حوالي التاسعة أو العاشرة ليلا تقريباً، ليتناول مقدار قليل من الأكل بعد الضغط عليه وأحيانا يرفض، ولا يهتم هو بطلب الأكل مطلقا إن لم يعرض عليه، نسهر معه قليلاً ثم نتركه بعد ذلك لننام، وليبقى هو مستيقظا طوال الليل منكبا على القراءة والكتابة. شكّل ذلك بالنسبة لي في البداية وباستمرار الإضاءة في الصالون طوال الليل إزعاجا كبيرا وصعوبة في القدرة على النوم، لكنني حرصت على أن لا أجعل نجيب يحس بتلك المشكلة، غير أنني ومع الوقت بدأت في التعوّد شيئاً فشيئاً على ذلك، خاصة بعد إن تمكنت من شراء مصباح كهربائي صغير [ونّاسه] وأعطيته له لكي يضعه بجانب رأسه، فلم يكن بإمكاني شرائه منذ البداية حيث أصبحت ميزانيتي متواضعة بعض الشيء، إذ أصبحت أتشارك مع ساشا في إنفاقه وخاصة لتوفير متطلباتها الضرورية، وترتب عن ذلك بالطبع حرمان نفسي من بعض الأشياء التي كنت قادر على شرائها سابقاً. من الأشياء الجميلة والمهمة من ذكريات تلك المرحلة قبل أن يأتي نجيب للإقامة معي وبعدها، هي أنه تصادف إن أقام في نفس المبنى شاب مصري رسّام اسمه [ناجي فخري]، وقد تعرفت به وأصبحت أتردد عليه من آن لآخر ولكن على فترات متباعدة، إلى إن التقيت بشقته بشخص عرّفني به ناجي قائلاً:  هذا أخي ثروت كان هو أيضاً رسّاما تشكيليا، كان شخص في غاية اللطف والأدب والدماثة، وقد رأيت له بعض اللوحات التي رسمها، وكانت تحمل بحق بصمات فنان عبقري، كما كان مثقف تقدمي ويساري وجدت نفسي وبسرعة أدخل معه في علاقة جميلة ومتميزة، وللأمانة كان الفرق كبير بينه وبين أخيه في كل شيء، وقد عمّق علاقتي به مجيء نجيب للسكن معي إذ كان على علاقة وطيدة وقديمة معه، وأصبحنا نقضي معاً أوقات طويلة في الحوار والنقاش، لكنني لاحظت أن ثروت كان يعاني قدر من الاكتئاب والتوتر، قلت في نفسي إنها حالات تتلبس الفنانين، لكنه كان ودودا وطيبا، غير إنه سرعان من انقطع عن القدوم إلى شقة أخيه غير أننا كنا نتقابل من آن لآخر، وقد كانت لوحاته الرائعة بل والعبقرية والتي لا يملك المرء إلا أن يقف أمامها طويلاً تحمل مع التمرد وتجسيد معاناة الإنسان قدرا كبيرا من الحزن الشفاف، وهي وإن كانت تمزج بين دفعك للتعاطف مع تلك المعاناة التي تعكسها الوجوه والأشكال وأيضاً الإيمان بقدرات الإنسان على تجاوز محنته، لكنها أيضاً تشعرك أحيانا بقدر من اليأس والسوداوية، هذه طبعا انطباعات متواضعة من شخص لا يفقه كثيراً في هذا النوع من الفنون خاصة في تلك الفترة. غير إنه بعد ذلك وللأسف الشديد انقطعت أخبار ثروت عني ولم أعد أراه. وقد تألمت بعد ذلك كثيراً جدا - وأنا أقضي فترة اعتقالي الأول - عندما قرأت مقالا للقصاص والكاتب [عبده جبير] في مجلة البلاغ اللبنانية يحكي عن خبر وفاته ويؤبنه، وقد نعاه بطريقة لائقة ومؤثرة، كان ذلك على ما أذكر في نهاية سنة 1973، وقد حزنت كثيراً جدا لسماع ذلك الخبر وفاته منتحرا كما قلت سابقاً، إذ مرّ بخيالي شريط علاقتي به، وكم كان شخصا طيبا ودمثا وصافيا ووطنيا تقدميا.

 

 

أبرز ملامح وأعراض أزمته

 

أرى أنه لابد لي الآن وقبل الاسترسال في سرد ما اعتقده أبرز ملامح أزمة نجيب سرور النفسية التي عايشتها عن قرب، أن أقوم بالتعريف به وبسيرته الذاتية، بعض من هذه المعلومات عرفته منه شخصيا، والبعض الآخر استقيته من المقالات العديدة التي كتبت عنه وتضمنت هذه السيرة. فهو فلاح ابن قرية من قرى مصر اسمها { أخطاب }، وهي التي عرّفها في قصيدة من قصائده قائلاً:  [في قريتي أخطاب حيث الناس من هول الحياة، موتى على قيد الحياة]، هذه القرية تقع بمركز { آجا } بمحافظة الدقهلية شمال القاهرة، ولد في الأول من يونيو سنة 1932، واسمه الكامل [محمد نجيب محمد سرور هجرس] ابن لفلاح فقير، أكمل دراسته حتى إنهاء المرحلة الثانوية بمحافظته، ثم انتقل إلى القاهرة ليدخل – وبناء على رغبة والده – إلى كلية الحقوق وذلك سنة 1952، لكن ولميله المبكر إلى المسرح دخل وفي نفس السنة إلى المعهد العالي للفنون المسرحية، وعندما تخرّج من المعهد وأخذ الدبلوم في سنة 1956 ترك كلية الحقوق وهو في السنة النهائية دون أن يتخرج منها، حيث تم تعيينه بالمسرح الشعبي وتفرّغ للمسرح بالكامل. وبعد سنتين أي في سنة 1958 تم إيفاده في بعثة لدراسة الإخراج المسرحي بموسكو، لكنه وبعد مضي فترة قصيرة على وجوده هناك ضرب حول نفسه عزلة كان سببها، وكما قال صديقه الدكتور أبوبكر يوسف: [... وبدأ يخرج من عزلته التي كان قد ضربها على نفسه عند مجيئه إلى موسكو، لاقتناعه – كما قال لي فيما بعد – بأن المبعوثين المصريين آنذاك (1959) كانوا منتقين بعناية من أجهزة المباحث بحيث لا يفلت منهم تقدمي واحد، أمّا هو فأفلت بأعجوبة لأنه وصل إلى موسكو في قمة الحملة المعادية للشيوعية في (الجمهورية العربية المتحدة)، وهي حملة صاحبت إقامة الوحدة بين مصر وسوريا، ولعبت هذه الصدفة دورا مأسويا في حياة نجيب سرور في موسكو، فما إن أفصح نجيب سرور عن انتمائه للفكر الماركسي، وأشاع إنه كان عضوا بأحد التنظيمات الشيوعية في مصر (جماعة حدتّو) حتى وجد نفسه محاصرا بشكوك وريبة قوية من قادة التنظيمات العربية في موسكو، وخاصة تنظيم الحزب الشيوعي السوري الذي كان يقوده في موسكو أحد أعضاء اللجنة المركزية لحزب اللاجئين إلى الإتحاد السوفييتي، وكان مبعث الريبة هو: كيف يتمكن شخص يقول إنه شيوعي من المجيء إلى موسكو في هذه الفترة بالذات، ويفلت من أجهزة المباحث المصرية التي كانت في أوج عنفوانها، بل وفوق ذلك يأتي طالبا في بعثة حكومية!، وفي محاولة منه لتبديد هذه الشكوك جنح نجيب إلى التطرّف، فلجأ إلى تشكيل مجموعة من (الديمقراطيين المصريين) لإصدار البيانات واتخاذ المواقف المعادية للنظام الحاكم، واستغل ذات مرة فرصة انعقاد أحد المؤتمرات التضامنية مع الشعب الكوبي في جامعة موسكو فقفز إلى المنصة واستولى عليها، وأطلق بيانا ناريا ضد (النظام القمعي الديكتاتوري) في مصر وسوريا، وبينما هدرت القاعة المملوءة عربا وأجانب بالتصفيق ظهر الحرج والضيق على أوجه المسؤولين في الجامعة، والذين وضعهم نجيب في ورطة شديدة، ونجحوا أخيراً في تنحيته عن المنصة ولكن بعد فوات الأوان! ففي اليوم التالي احتجّت السفارة المصرية على جامعة موسكو، وفصل نجيب من البعثة (هو وماهر عسل الذي ترجم له البيان وألقاه بالروسية) وألغي جواز سفرهما، وطالبت السلطات المصرية المسؤولين السوفييت بترحيل نجيب سرور وماهر عسل إلى القاهرة فورا!، وبهذه الحركة نجح نجيب في كسب ثقة الشيوعيين العرب في موسكو فدافعوا عن بقائه فيها، وتكللت مساعيهم لدى السلطات السوفييتية بالنجاح فظل نجيب في موسكو][1] [وهجر نجيب سرور المسرح الذي كان يدرس فيه تحت إشراف المخرج الكبير (نيكولاي أخلوبوكوف) متعللا بأن أخلوبوكوف مخرج شكلي يهوى المؤثرات الصوتية والضوئية ولا يغوص في أعماق النص المسرحي، وقد شاهدت بالفعل مسرحية (هاملت) من إخراج أخلوبوكوف، فأصمّ أسماعنا دويّ الطبول في أوركسترا المسرح، وأغشت أبصارنا الأضواء الباهرة التي كان يسلطها على الصالة][2] [في أواخر فترة وجوده في موسكو، حوالي سنة 1963 بدأ نجيب يكثر من الحديث عن النفوذ الصهيوني في الإتحاد السوفييتي، واستنكرنا منه ذلك بشدّة إذ كنا نعيش في (عصر الأممية)، ولم نصدّق أن الإتحاد السوفييتي العظيم يمكن أن يكون خاضعا للنفوذ الصهيوني، واعتبرنا – أنا وزملائي – أن نجيب يغالي كعادته، وخاصة في ظل تفاقم أزمته الشخصية، وبعد ذلك بسنوات أدركت مدى صواب ما يقال عن عين الفنان التي ترى ما وراء الظاهر وتغوص إلى أعماق الأشياء وتكشف لنا ما لا نراه مثل عيني زرقاء اليمامة! وأنا أريد هنا أن أقول أن نجيب سرور كان محقا تماما آنذاك، ولكنه رأى بوادر الظاهرة التي لم تنكشف لنا إلا فيما بعد][3] [وسافر نجيب إلى بودابست بدعوة من أحد اللاجئين السياسيين المصريين هناك، حيث عمل في القسم العربي بإذاعة بودابست، والتفّ حوله العرب ورحّبوا به، ولكن سرعان ما عاودته أزمته التي لم يفلح تغيير المكان في إطفاء جذوتها، وكان يتصل بي من هناك هاتفيا، مؤكدا على استفحال النفوذ الصهيوني لا في القسم العربي في الإذاعة فحسب بل وفي معظم أوجه الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في المجر، وبالطبع أخذت ما قاله على محمل المبالغة المعهودة فيه...][4] [وذات مرة اتصل بي من بودابست، وكان ذلك في ربيع عام 1964، وقال بصوت متهدّج أفجعتني نبرته المتهالكة إنه جائع ولم يأكل منذ أيام، وسيذهب غدا إلى السفارة المصرية (ليسلم نفسه كما قال) لأنه لم يعد يحتمل الزيف المحيط به ويريد أن يعود إلى مصر ليموت فيها مثل (سنوحي)][5] [ولهذا فبوسعي أن أقول أن نجيب سرور، ورغم كل شطحاته وتقلباته وضياعه وأزماته، كان فنانا ملتزما بقضايا شعبه ووطنه على المستويين المصري والعربي حتى الرمق الأخير][6] [ثمة تفسير منطقي واحد لهذه الأزمة لا أجد غيره.. إنه الصراع في نفسية الشاعر بين الواقع المرفوض.. والمثال المستحيل.. إنه مأساة العقل، الذي يحفر كالمثقاب في طبقات الزيف والأكاذيب ليصل إلى الحقيقة، ولكنه للأسف يواصل الحفر حتى يخرج من الجانب الآخر، محدثا ثغرة في السد تتسع مع الزمن لتندفع منها المياه المخزونة مدمرة كل شيء!... الفنان شمعة تحترق.. لتضيء لنا الدرب إلى الحقيقة، والخير، والجمال... ونجيب سرور فنان لم يدّخر ضوءه، فاحترق سريعا كشهاب مرق في سمائنا، ولكنه ترك في نفسي، وفي نفوس الكثيرين غيري أثرا ساطعا لا ينسى.. لأنه أثر الموهبة المبدعة...][7]، لذا وبعد تدخل العديد من الكتاب لدى نظام عبدالناصر من أجل السماح له بالعودة إلى أرض الوطن، وكانت أبرزهم مناشدة الكاتب الكبير(رجاء النقاش) على صفحات جريدة الجمهورية في الخامس من يوليو سنة 1964، وذلك بمطالبته عبدالناصر الموافقة على عودة نجيب سرور {تائباً} على حد قوله، أفلحت حينها تلك الجهود وسمح لنجيب بالعودة إلى مصر. رجع نجيب فعلاً وفتح له المجال إذ عيّن أستاذا بالمعهد العالي للفنون المسرحية، كما أخرج له (كرم مطاوع) روايته الشعرية [ياسين وبهية] التي كان قد كتبها في بودابست، بعد إن حولها إلى مسرحية وقدمها على مسرح الجيب سنة 1965، إلا أنه طرد من عمله كأستاذ بالمعهد العالي للفنون المسرحية بعد سنتين. غير أن قضية عدم السماح لزوجته [ساشا كورساكوفا وابنه شهدي الذي ولد في الثاني عشر من يناير سنة 1962] ظلت تؤرقه وتعذبه كثيراً جدا، وقامت بسبب هذه المسألة الإنسانية أيضاً حملة كبيرة من المناشدات من قبل مجموعة من المثقفين والكتاب، لكنها لم تفلح للأسف الشديد، وقد تزوج في تلك الفترة – وفي ظل أزمته تلك – من الفنانة [سميرة محسن] ثم طلقها سنة 1968. إلى إن أتت سنة 1969 والتي كان فيها الحدث الذي مثل ذروة اضطهاده والتضييق عليه، إذ بعد عودته من سوريا حيث عمل هناك لبضعة شهور تم اختطافه من الشارع وأودع في مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، ليبقى فيه ستة أشهر عانى فيها صنوف العذاب والتنكيل والإذلال، وقد كانت تلك المسألة رائجة عند بعض الأنظمة الشمولية، وقد ارتكب عبدالناصر هذه الجريمة أيضاً بحق الفيلسوف والمفكر الكبير [إسماعيل المهدوي]. وقد أورثت تلك المرحلة باضطهادها وتعذيبها وتجويعها لنجيب الكثير من الأمراض، وتركته يعاني من ضعف في القلب والكبد والكلى ومن مرض السكر والضغط وورم في الساقين، ولكن أفلحت أخيراً جهود المثقفين الوطنيين بنجاحها في دفع النظام المصري إلى السماح بعودة زوجته وابنه في أكتوبر سنة 1970، رزق بعدها بابنه الثاني فريد الذي ولد سنة 1971، وهي نفس السنة التى توفى فيها والده محمد سرور.

 ما عرفته أنا شخصيا عن نجيب سرور بعد فترة من علاقتي به، وعن أفكاره وآراءه ومواقفه والتي كانت حادة غالباً، وعن صفائه ونقائه وطهرانيته وشفافيته، لكونه شاعرا وأيضاً لكونه فلاحا ابن قرية بسيطة عرف الظلم منذ طفولته ورآه بأم عينه يمارس ضد أبيه، وعانى الفقر وشظف العيش كأي فلاح مصري في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، جعله كل ذلك إنسانا وطنيا متمردا يكره الظلم والتمايز الطبقي ويحب الفقراء ويدافع عنهم في كل ما كتب، كان حساسا ورقيقا تملأ العاطفة قلبه الكبير، وعندما تشكل وعيه وتحدد انتمائه للعدل والحرية والمساواة وانحيازه للفقراء، عكس كل ذلك في مسرحياته وشعره، كتب الشعر مبكرا ثم صار يكتب المسرحيات ويخرجها، ولم تخل مسرحية مما كتب إلا وكانت تحكي معاناة فلاحي مصر الفقراء ونضالهم العنيد ضد الإقطاع الذي يسلبهم جهدهم وقوتهم مقابل أجر لا يكاد يسد الرمق، وقد تعرّض بسبب مواقفه وكتاباته تلك للقمع والاضطهاد من قبل نظام عبدالناصر ومن بعده السادات، حوصر واضطهد ومنع من العمل وتم التضييق عليه حتى في لقمة عيشه، بل أيضاً سجن وعذّب – عدا بعض فترات الراحة القصيرة – وذلك لأنه لم يعرف النفاق ولا المداهنة والتزلف ولا التمسّح بأعتاب المسؤولين، ولم يسخّر قلمه يوما إلا لقول الحقيقة بعيدا عن التزييف، متمترسا وراء مواقفه هذه لا يعرف المهادنة ولا أنصاف الحلول ولا اللعب على الحبال – كما كان يقول دائماً – لذا فقد عانى الكثير بأشكال وأساليب متعددة كما أوضحت سابقاً.

هذا أغلب ما عرفته وسمعته عنه ومنه وعن ما عاناه في المرحلة التي سبقت تعرّفي عليه وصداقتي معه، وقد كان جسمه وعقله يحملان فعلاً تلك الندوب الغائرة وتلك الطعنات والجراح التي أثخنت جسمه وأدمت قلبه وروحه، لكن الأيام كانت تمضي رغم كل شيء بمحنها وآلامها، وكان قد عرّفني على العديد من الشخصيات الثقافية المهمة والمناضلة - وبشكل أكثر تميّز – على الشاعر/ أحمد فؤاد نجم وزوجته السابقة الكاتبة/ صافيناز كاظم، والتقينا وجلسنا معاً عدة مرات، وقبل أن تتدهور حالته الصحية أكثر كان قد دعاني لأن أحضر معه أمسية شعرية للشاعر/ عبدالرحمن الأبنودي بجامعة عين شمس، وكان قد قدم الشاعر على ما أذكر الفنان الممثل/ عبدالعزيز مخيون وألقى بعض القصائد أيضا، كما غنى فيها المطرب التقدمي الشهير/ عدلي فخري، وقد كان منظمو تلك الأمسية طلبة يساريين، وأذكر الآن أن الحفل انتهي فجأة وغادرنا القاعة هربا بعد أن أبلغنا أحد الطلبة إن رجال المباحث قادمون لاعتقالنا أو ربما فقط لفضّ الأمسية، وتفرقنا كل في اتجاه دون أن يتم القبض على أحد، ومن الحاضرين على ما أذكر كان الشاعر الكبير المرحوم/ أمل دنقل، ودون شك كان هنالك الكثيرون غيرهم ممن لا أعرفهم.

كما أذكر إننا قد ذهبنا سوية ذات مرة إلى مقر مجلة الكاتب، وقد كان رئيس تحريرها في ذلك الوقت - إن لم تخنّي الذاكرة - الشاعر الكبير/ صلاح عبدالصبور وقد كانت تلك المرة الأولى التي ألتقيه فيها وأتحدّث معه، وقد كان هناك لفيف من الأدباء والكتاب والمثقفين الكبار، أعتقد إنه كان من بين الموجودين في تلك الجلسة أيضاً الشاعر الكبير/ أحمد عبد المعطي حجازي، ولم أعد أذكر الآخرين، لكنني لازلت أحمل في ذاكرتي تلك الجلسة كحدث هام.

حادثة أخرى تعد بنظري بالغة الأهمية والدلالة لما تحمله من معاني وأبعاد إنسانية في غاية العمق، إذ حدث ذات مرة – وذلك كان نادر بالطبع – إن تحصّل نجيب على مبلغ من المال نظير عمل ما، وبمجرد إن استلمه حتى قرر إنه سيحتفل بذلك الحدث بدعوتي لتناول غذاء فاخر، ورغم محاولاتي رفض ذلك بحجج مختلفة كي أوفّر عليه هذه الخسارة إلا أنه أصرّ بعناد، ذهبنا إلى أحد [الكازينوهات] أعتقد أنه [كازينو قصر النيل]، جلسنا ليطلب لنا الكباب والسلطات والبيرة، وقد كانت فعلاً وجبة فاخرة، لكننا وقبل أن نبدأ مر بجانب الطاولة التي نجلس عليها صبي صغير شحّاذ يطلب إحسانا، فما كان من نجيب إلا إن طلب منه الجلوس على أحد الكراسي والأكل معنا، وقد تفاجأ ذلك الصبي وتردد في الجلوس، بل ربما ظنّ أن المسألة نوع من التهكم، لكن إصرار نجيب وطلبه المهذب والحاني والعطوف له بالجلوس جعله يجلس وهو في حالة ذهول وتردد، لكن ما إن جلس فعلاً حتى أتى نادل من العاملين بالمحل، ونهر الصبي طالبا منه بغضب شديد النهوض والانصراف، لكن نجيب صاح في وجه النادل قائلاً بغضب شديد أيضا: كيف تسمح لنفسك بطرد ضيفي، وطلب منه مهددا أن يذهب ليهتم بشؤونه، فما كان من ذلك النادل إلا إن اشتكى لرئيسه المباشر الذي أتى متسائلا ومستغربا قول نجيب بأن هذا الصبي المشرّد ضيفه، مضيفا بأنه يُمنع على مثل هؤلاء المشرّدين ارتياد هذه الأماكن، وإن ما يقوم به نجيب يعدّ خطأ ومخالفة بل وممنوعا، وفي تلك الأثناء أمسك الصبي من يده ليخرجه، فانقض عليه نجيب مزمجرا ومتوعدا بضرب الرجل لو تطاول على الصبي مرة أخرى، كل ذلك وأنا منحاز إلى موقف نجيب أحاول أن أهدئ الموقف وأشرح وجهة نظره وأخفف من حدة طريقته، بينما كان الصبي مرتبكا وخائفا وحائرا ما الذي يتوجب عليه عمله، مع إنه لم يكن يفوّت الفرصة بملء فمه من آن لآخر بقطعة من اللحم الساخن والشهي، ذهب ذلك الرجل ليحضر لنا أخيراً المدير نفسه – أو ربما - صاحب المحل، وما أن استطلع الأمر وتبيّن له مدى إصرار نجيب على موقفه، حتى رأى أنه من الأفضل للجميع ترك المسألة تمر بسلام، خاصة وإن الزبائن – والمجاورين لنا تحديدا – بدأ الفضول يدفع البعض منهم إلى التجمّع حول طاولتنا، وهو ما لا يريده هذا المسؤول، وما أن اطمئن الصبي إلى أنه بأمان حتى انكبّ على الأكل بنهم وتلذذ يصعب وصفه والتعبير عنه وهو غير مصدق لما يحدث، كان يلتهم الأكل بطريقة توحي أنه لم يذق طعم الأكل – وربما حتى الفول – منذ عدة أيام، فما بالك بالكباب، وكان نجيب يراقب ذلك المشهد باستمتاع وسعادة غامرة دون أن يمد يده إلى الأكل وهكذا فعلت أنا أيضا، ولم يمر وقت طويل حتى أتى الصبي على الأكل كله، ونحن فاغرا الأفواه نراقب بتعاطف كبير ونتلذذ معه طعم الكباب، كان صبيا لم يتجاوز العاشرة أو الحادية عشر، أنهى أكله ثم قال وهو يغادر: [متشكرين ياباهوات، سامحوني سببتلكم مشكله وكمان خلصت الأكل كله، الباين كنت جيعان قوي، السلام عليكوا] واندفع خارجا، كان نجيب سعيد جدا وقمنا بدون أن نأكل شيئاً لكن شعورنا كان فعلاً إننا أكلنا معه، هذا عدا أنه لم تعد ثمة نقود في حوزة نجيب لطلب آخر، عندما حكيت هذه القصة لصديق تقدمي، قال (بعد إن ترقرق الدمع في عينيه): هكذا يعلمنا نجيب سرور كيف نحب الفقراء حقيقة، لا فقط نتحدث عنهم والبعض ربما حتى يتاجر بمعاناتهم.

كان ذلك ما أذكره من مواقف وأحداث كانت لي مع نجيب قبل أن تسوء حالته النفسية، لكن ذاكرتي التي أصابها الكثير من الضعف والوهن – بسبب ما لاقته وعانته بالطبع – احتفظت ببعض الأحداث الأخرى التي أراها كانت الأعراض الأبرز والأكثر دلالة على أزمته، والتعبيرات الأكثر مأسوية على التدهور الكبير لحالته النفسية، والتي أصبح فيها وضعه ككرة الثلج المتدحرجة، بحيث صار التدهور يأخذ شكلا تصاعديا يوم بعد يوم، ولم تكن تلوح حينها أية بارقة أمل في التحسّن، أو على الأقل توقف التدهور عند حد معيّن، رغم أن حالته لم تأخذ خطا صاعدا باستمرار، إذ أن رسمها البياني كان يظهرها متغيرة صعودا وهبوطا، مما يجعل حدّها الأدنى – والأفضل نسبيا بالطبع – كان مقبولا وشبه طبيعي ويمكن التعايش معه، مع حدّة توتر نجيب وعصبيته شبه الدائمة وتأثرنا وألمنا عليه وأحيانا بسببه.

سأذكر هذه الحوادث التي بقت بالذاكرة، ليس باعتبارها حصريّة ولكن باعتبارها عينات ونماذج لتلك الأزمة لأن الوقائع في الحقيقة كانت كثيرة، وسأسرد ما أذكره منها حسب تواليها إن لم تخنّي الذاكرة، وتمثّلت تلك الأحداث والمواقف في:

الحادثة الأولى: وهي حادثة دالة ومعبرة بشكل مباشر على الفقر والعوز والحاجة الذي عاناه نجيب، تمثلت في تطوّع الفنانة [سميحة أيّوب] للشروع في حملة تبرّعات لأجل نجيب، والذي بات معروفا في أوساط الفنانين والمثقفين عموما المستوى الذي وصل إليه من ضيق ذات اليد، لذا وما إن تيسّر لسميحة تجميع مبلغ بسيط من المال، لكنه معقول بالطبع لأسرة نجيب، حتى اتصلت بساشا طالبة منها الحضور إليها بالمسرح القومي، بعد إن حددت لها موعد لذلك، وعند الموعد طلبت مني ساشا الذهاب معها، وهي في الحقيقة لا تدري لماذا تطلبها، وما إن وصلنا ودخلنا مكتبها وتم تعريف السيدة سميحة بي، دخلت الفنانة سميحة فورا في الموضوع قائلة: أعلم ويعلم الكثيرون غيري من أصدقاء نجيب الظروف التي تعانون منها، وأنت تدركين دون شك مقدار ما نحمل نحن المسرحيون على وجه التحديد من مشاعر حب واحترام وتقدير لنجيب، ونعتبره فنانا ومثقفا كبيرا وقلما نادرا خاصة مسرحه وشعره، ولكننا في الحقيقة عاجزون عن فعل ما يتوجّب علينا فعله لأجله، وأيضاً - وهو في ظروفه النفسية التي يمر بها في الفترة الأخيرة - ليس بإمكانه مساعدتنا على أن نساعده، لذا فكرّت في تنفيذ أمر علّه يساعد قليلا، وهو تجميع مبلغ من المال من أصدقائه ومحبّيه، وقد تمكنت فعلاً من تجميع هذا المبلغ المتواضع – قالت ذلك مادة يدها بالمبلغ إلى يد ساشا – والذي أرجو أن يساعد قليلاً كما قلت، وسوف أعمل على الاستمرار في هذه المبادرة ومحاولة تجميع مبلغ آخر، لكنني أرجوك أن تحتفظي به أنت من أجل الطفلين، وأن لا تسلميه لنجيب، لأنه نما إلى علمي أنه يكثر من الشراب في الفترة الأخيرة [تقصد البيرة] كما كررت عبارات الأسف الشديد والحزن – التي قالت أنه يعتصر قلبها – على الوضع الذي وصل إليه صديقي نجيب، هذا الفنان والشاعر والكاتب الكبير في الفترة الأخيرة، شكرتها ساشا كثيراً على ما قامت به لأجلهم بتجميعها هذا المبلغ الذي قالت: إنهم في أمسّ الحاجة إليه، كما شكرتها أيضاً على كلمات المجاملة وكلمات الحب والتعاطف مع نجيب في المحنة التي يمر بها، ثم أضافت: إن الكثيرين تخلوا عنه، وقلة من قد يقومون بما قمت به، بل لعلك الوحيدة، وإن الدنيا لازالت بخير طالما يوجد بها أناس مثلك ومثل الأخ/ مراد [تقصدني]، وحكت لها عما قمت به من أجلهم وعن استضافتي لهم في بيتي، شكرتني الفنانة سميحة على إثر ذلك كما شكرتها أنا أيضاً على ما قامت به، ثم صافحناها وقمنا لنغادر المكتب، في الحقيقة لابد من القول أن المبلغ كان زهيد فعلا، وليس بمستوى حملة تبرعات يقوم بها فنانون وأدباء، لكنه كان مهم جدا لساشا.

الحادثة الثانية: تمثلت أيضاً في موقف آخر وهو محاولة نجيب وإصراره على إخراج مسرحيته، ثم سحبها منه من قبل مديرة المسرح القومي الفنانة/ سميحة أيّوب، إذ إنه وفي تلك الفترة وبمساعدة الفنانة الكبيرة سميحة أيّوب، تم قبول مسرحيته [قولوا لعين الشمس] من قبل المسرح القومي لإنتاجها وعرضها على خشبته، وقد تعرقل الموضوع لفترة بسبب إصرار نجيب على إخراجها بنفسه، ولم يكن رفض سميحة لتلك الفكرة نابع من التشكيك في خبرته وقدرته على الإخراج من حيث المبدأ، لكن لأنها تعرف أنه يمر بظروف صحية ونفسية ليست على ما يرام، وبالقدر الذي لن يمكنه – حسب تقديرها – على القيام بذلك، من حيث عدم قدرته على الالتزام بالمواعيد، وأيضاً عصبيته التي كانت حادة في تلك الفترة، الأمر الذي سينعكس – حسب رأيها - سلبا بالضرورة على علاقته بالممثلين وتعليماته وتوجيهاته لهم، وغير ذلك مما ساقته من أسباب هي في الحقيقة مقنعة، لكن نجيب تمسّك بموقفه وأصرّ عليه، لا بل هدد سميحة بأنه سيكون مضطرا لسحب مسرحيته في حال أصرّت إدارة المسرح على موقفها ذاك، الأمر الذي دفع سميحة – مجاملة واضطرارا حسب تقديري – على الموافقة على إخراجه للمسرحية، وفعلاً بدأ التدريبات المبدئية، وهي ما يسميه المسرحيون [بروفات الطاولة]، أي القراءة الأولية للأدوار على الطاولة، وكان قد دعاني نجيب للذهاب معه مرتين تقريباً، وقد استمتعت بذلك كثيراً حيث أنني أشاهدها للمرة الأولى، وقد التقيت بممثلين كبار من بينهم: كرم مطاوع، عبدالله غيث، سميرة عبدالعزيز، وفردوس عبدالحميد وآخرين لا أذكرهم الآن، لكن نجيب وللأسف الشديد، وكما توقّعت الفنانة سميحة أيّوب لم يتمكن من الالتزام بالمواعيد بالدقة المطلوبة، إذ كان غالباً ما يتأخر، كما إن تعامله مع الممثلين والممثلات (والذين هم جميعا زملاؤه وأصدقائه ويكن لهم في الحقيقة مشاعر ودّ واحترام، كما هم أيضاً يكنون له نفس المشاعر بالمقابل) اتسم بالكثير من العصبية والتوتر والحدة أحيانا، مما اضطر السيدة سميحة في النهاية إلى اتخاذ قرارا حاسما بسحب المسرحية من نجيب وإسناد إخراجها إلى مخرج آخر، أعتقد أنه وعلى ما أذكر المخرج [توفيق علي]، الأمر الذي أحزن نجيب وآلمه كثيراً في الوقت الذي أحسّ فيه – ولاحترامه الشديد لسميحة أيّوب – أنه مضطر للرضوخ لهذا القرار. وقد تم عرض هذه المسرحية سنة 1973.

غير أنه ومع ذلك، فإن الظروف لم تترك نجيب حتى في هذا الحد من التدهور، سواء في حالته النفسية أو في وضعه المادي أيضا، إذ لم يكتف من كانوا وراء القمع الموجّه ضده بأن يبقونه في حدوده تلك، بل إنهم أرادوه أن يواصل طريقه محاولا تدميره بالكامل، وأن يكتسح في طريقه كل من له علاقة به، ليطال أعزّ ما لديه ونقطة ضعفه القاتلة، بأن ينال من ولديه شهدي وفريد وذلك بتشريدهم والإمعان في تجويعهم أكثر فأكثر، لذلك كله، أي بذلك الكم الهائل من المعاناة الذي توّج بحادثة طرده من شقته إلى الشارع، وأيضاً عدم تمكنه من إيجاد مأوى أو أي مكان يلجأ إليه في كل بلده مصر وفي كل بيوت أصدقائه الكثيرين، لم يجد غرفة واحدة وسقفا يقيه وطفليه وزوجته البرد والحر، مما اضطرّه للقبول – مرغما دون شك – للإقامة عند شباب ليبيين، وبما شكله ذلك من إحساس باليأس والقنوط بل والمهانة والألم الذي لم يكن بالمستطاع تحمله، رغم ما غمرناه به أنا وزملائي من عواطف ومشاعر من الحب والتقدير حقيقية وصادقة، وما حاولنا من جهد للتخفيف عنه. فقد كان ذلك الحدث في الواقع ضربة قاسية بكل المقاييس بالنسبة إليه، فتح في قلبه دون ريب جرحا نازفا – حاول أن يجعله مستترا – وهو المثخن بالجراح كما قلت سابقاً، ورغم محاولته تلك لتصنّع القوة والتماسك، وإنه قد تمكن من أخذ الأمر بواقعية وصلابة، لكن ذلك الحدث كان بحق في اعتقادي – القشّة التي قصمت ظهر البعير كما يقال – وكان لها الأثر المباشر والسريع في تدهور حالته النفسية وبشكل كان ملحوظا، خاصة من قبل ساشا ومنّي نحن القريبان منه، وقد انعكس وتجسّد ذلك في أحداث ومواقف متعددة، وتم التعبير عنه بأشكال مختلفة سوف أتحدّث عن أبرزها، إذ أنه وبعد شهور قليلة من إقامته معي أصبح سلوكه ذاك وتصرفاته العصبية والمتوترة وحتى هذيانه أحيانا حالة دائمة وغير مسيطر عليها. لاحظت عند بداية ظهور تلك الأعراض حدّته الزائدة وردّات فعله العصبية خاصة مع ساشا وعلى أبسط الأمور، كما انعكست أيضاً في رغبته الدائمة في احتساء البيرة، وأيضاً تأخّره المستمر في السهر خارج البيت، ليعود إلى البيت بعد ذلك منهكا ومبتئسا وحزينا حد الثمالة، ولم يتوقف الأمر للأسف الشديد عند ذلك الحد، إذ بدأ يزداد تدهور حالته يوم بعد يوم، إلى إن وصل به الأمر أن يمشي في الشوارع حافي القدمين أحيانا، يستوقف المارّة ليحدثهم عن حبه الشديد لمصر، وأنهم يجب أن يحبوها بنفس القدر لأنها – على حد قوله – تستحق ذلك، كما كان يقول: (إن اللي بيحكموها شوية حراميه وخو.... حيودوها فستّين داهيه، موصيا إيّاهم: خليكو صاحيين، أحسن ما ييجي يوم وتندموا، وغير ذلك من الأحاديث)، كما كان يسجد أحيانا في الشارع ليقبّل الأرض، وكان المارّة بالطبع ينظرون إليه نظرة شفقة ومتعاملين معه كمجنون غالباً.

الحادثة الثالثة: في يوم آخر، وكان في أشد حالاته تلك حدّة رجع إلى البيت في حوالي الساعة الثانية عشر ليلا، لكن وما إن بقى بضعة دقائق تشاجر فيها مع ساشا حتى خرج ثانية، وقد حاولت جاهدا منعه من ذلك دون جدوى، لكنه أصرّ على أنه لا يرغب في البقاء ولا يرغب في رؤية أحد واندفع خارجا من الشقة، لحقت به قائلاً:  أن الوقت متأخر ولا يوجد مكان تذهب إليه الآن فدعني على الأقل أرافقك، لكنه رفض ذلك أيضا، غير أنني تجاهلت طلبه ولحقت به لأراقبه من بعيد، وما إن رآني حتى استشاط غضبا ورجاني أن أتركه لحال سبيله وأعود إلى الشقة، لكن قلقي الشديد عليه دفعني إلى الاستمرار في ملاحقته عن بعد دون أن ألقي بالا لرجائه محاولا جهدي أن لا أدعه يراني. كان يسير على قدميه – لا أدري إلى أين ولا إلى متى – حيث لم يكن يملك أجرة التاكسي ولم يطلبها مني، خرج من مدينة الإعلام إلى الزمالك متجها إلى (وسط البلد) على امتداد شارع 26 يوليو وأنا وراءه، إلى أن وصل إلى دار القضاء العالي لينحرف بعدها إلى اليمين داخلا شارع سليمان باشا متجها نحو ميدان طلعت حرب ليخترقه متجها صوب ميدان التحرير، كل تلك المسافة الطويلة جدا وأنا ألاحقه خلسة، وقد كان يراني أحيانا فيطلب مني صارخا العودة من حيث أتيت، لكن ومع حرصي على أن لا أزيد غضبه وانفعاله وتوتره، كنت أيضاً أحاول تهدئته واستمراري في رجاءه بالعودة معي، فقد أصابني الإنهاك الذي دون شك أصابه هو أيضا، لذا صرت أتبعه على مسافة قريبة ومستمرا في التحدّث إليه محاولا إقناعه بالتوقف عما يفعل والعودة إلى البيت، إلى أن تمكنت أخيراً من إقناعه فعلا، بعد إن لفّ على كوبري ميدان التحرير [الكعكة الحجرية] أكثر من مرة، ووافق على العودة معي، عندها وعلى الفور طلبت سيارة أجرة خوفا من تراجعه عن قراره، ركبنا السيارة عائدين إلى الشقة، وما إن دخلنا – والساعة قد صارت بين الثالثة والرابعة فجرا – وكانت ساشا لم تنم بعد بالطبع، منتظرة على جمر القلق والانشغال، لكنها تنفست الصعداء وانفرجت أساريرها حال إن رأتنا داخلين، أنا كما نجيب كنا متهالكين من التعب طبعا، لذا فما إن استلقينا على الكنبتين بالصالون حتى غبنا في سبات عميق.

الحادثة الرابعة: وهو موقف تلى ذلك يأتي في نفس سياق هذه المواقف المشحونة بالتوتر والحدة والعصبية غير المبررة بالطبع، إلا كتعبير عن التدهور الكبير لحالة نجيب النفسية، حدث ذلك عندما أتى لزيارته ابن أخته الذي لم أكن أعرفه إذ لم التقيه سابقاً، وأنا إلى الآن لا أدري كيف استدل على نجيب وكيف عرف إنه يقيم معي، المهم إنه وصل إلى شقتنا ولم يكن حينها نجيب موجودا، استقبلته ساشا ورحّبت أنا به، وتأسّف هو على وضع خاله الذي أدّى إلى طرده من شقته واضطراره للإقامة معنا، كان الوقت مساءً، وكعادة نجيب في الفترة الأخيرة تأخّر في العودة إلى البيت، غير أنه حين عودته وكان في حالة انفعال حادة، ما إن رأى ابن أخته واسمه [فتحي] – وبدل أن يقابله بعبارات الترحيب كما هو متوقع، حيث لم يره منذ فترة طويلة – فقد زاد هيجانه وانفعاله أكثر متضايقا من وجوده بل وصل الأمر حدّ مطالبته بالخروج من الشقة، تفاجأت أنا كثيراً من ذلك الموقف ولم أدر ما أفعل سوى محاولتي تهدئته وإقناعه إن الوقت ليل – وقد كانت الساعة حينها تقترب من الواحدة ليلا – وليس له مكان يذهب إليه حسب ما علمت من ساشا التي كانت بدورها محرجة كثيرا، لذا قلت لنجيب: فلينام الليلة هنا وغدا صباحا يمكنه المغادرة، لكن نجيب أصرّ على مغادرته فورا، وبالطبع لم يكن بإمكاني أن أطلب منه ذلك إلا لو غادر بإرادته، لذا بقيت على الحياد منتظرا ما سوف يحدث، إلا أن نجيب قال منفعلا: إما أن يخرج هو أو سأخرج أنا، طلبت منه راجيا أن يهدأ ويكفّ عن هذا الكلام الغريب، وإنه ليس هنالك ما يستدعي كل هذا الغضب وهذا الإصرار على خروج ابن أخته، وإنه حتى لو كان ثمّة مشكلة ما بينهما، فإن الظرف غير مناسب للتعامل معه بهذه الطريقة، لكن نجيب وكما لو إنه لم يكن ينصت لي، أصرّ على موقفه ونهض مغادرا، لحقت به وأنا ألومه على هذا الموقف قائلاً:  أين لك أن تذهب في هذا الوقت المتأخّر من الليل، ولتكن متسامحا وتصفح متجاوزا سوء التفاهم، لكنه لم يعر كلامي أي انتباه وطلب مني راجيا أن أطلب له سيارة أجرة تنقله إلى (مدينة المهندسين)، سألته: وبيت من الذي ستذهب إليه في هذا الوقت المتأخر من الليل!؟، أجاب: إنه بيت أصدقاء لي، وأنا متأكد من أنه ليس لديهم أي مانع من استقبالي في أي وقت، وأيضاً أنا متأكد إنه لن يكون ثمّة أي إزعاج لهم، طلبت سيارة أجرة وركبت معه، تفاجأ من تصرفي ذاك حيث إنه كان يريد أن يذهب وحيدا بالطبع، فسألني إلى أين تذهب!؟، فقلت: إنني أريد أن أعرف المكان لأطمئن عليك، فلم يمانع أو يحتج، وقد كنت مصمما على ذلك حتى لو فعل، لكنه مع ذلك علق: بأنه لا يرى أي داع لذلك، لم أردّ عليه وذهبنا سوية، وعندما وصل إلى المكان الذي كان يقصده طلب من سائق التاكسي التوقف أمام عمارة بالمهندسين، نزلنا من السيارة وطلبت من السائق انتظاري قائلاً أنني سأعود معه، صعدنا الدرج وأنا متردد الخطوات بسبب الإحراج، وصلنا أمام باب شقة بالدور الأول، دق الجرس وبقينا ننتظر لفترة قليلة، بعدها فتحت لنا سيدة عرفتها على الفور، فقد كانت الفنانة الكبيرة والقديرة والتقدمية/ محسنة توفيق، التي كنت أكن لها احترام وتقدير شديد، ولم أكن قد التقيت بها سابقاً، تفاجأت بنا وبحضورنا في ذلك الوقت بالطبع، وقالت: تفضلا، وهي تنظر بعينين قلقتين ومتعاطفتين إلى نجيب، وقد أدركت على الفور إنه في وضع غير طبيعي، وبينما دخل نجيب بقيت أنا واقف أمام الباب، وقلت لها بعد أن بقينا لوحدنا: أنا عبدالعظيم من ليبيا وصديق لنجيب وهو مقيم معي بشقتي في هذه الفترة، وأريد أن أعتذر منك على هذا الإزعاج لمجيئنا في هذا الوقت المتأخر، لكنني لم أتمكن من منعه من المجيء إليك حيث أصرّ على ذلك قائلاً:  إنني ذاهب إلى أصدقاء لي ومستعدّين لاستقبالي في أي وقت، وهو كما لاحظتي ربما وستلاحظين أكثر يعاني قدر من التوتر، وحالته النفسية ليست على ما يرام، وأنا أتيت معه فقط لأطمئن عليه وأعرف إلى أي مكان هو ذاهب حتى أطمئن زوجته ساشا أيضا، فردّت وبمنتهى الدماثة واللطف: إن نجيب هو فعلاً أخ وصديق عزيز ويمكنه – كما قال – أن يأتي إلى بيتي في أي وقت وساعة يشاء، وهو سينام هنا هذه الليلة لذا فكن مطمئنا، وأنا أشكرك على عنايتك به واهتمامك بأمره كما أرجوك أن تطمئن ساشا، وهكذا غادرت تاركا إيّاه لينام عندها.

الحادثة الخامسة: وهي آخر المواقف التي أذكرها، وهي بالطبع جميعها مجرد عينات لا أدري ما إذا كانت دالة على عمق أزمة هذا الشاعر والكاتب المسرحي العبقري وحجمها وانعكاساتها على من حوله ومن يهتمون به، وقد كان هذا الموقف في غاية الإيلام والمأسوية، تمثّل في أنه ذات يوم وعند عودتي من عملي حوالي الساعة الثانية عشر ظهرا تقريباً، وجدت ساشا بانتظاري واقفة هي وشهدي أمام باب الشقة يبكيان، ولم يكن أحد من زملائي موجودا بالشقة في ذلك الوقت، وما إن رأتني حتى أبلغتني على الفور ومن بين دموعها أن نجيب أخذ منها فريد عنوة - وقد كان في حالة شبه هستيرية – وذهب به لا تدري إلى أين، ورجتني أن نخرج بسرعة للبحث عنه، خوفا على فريد ومحاولة لمنع أن يصيبه مكروه كانت تتوقعه فهو في خطر محقق على حد تعبيرها، إذ كان نجيب قد قال لها إنه يريد أن يقتله برميه في النيل، لأن ذلك أفضل له حسب تعبيره، حيث أنه – أي فريد – وحسب تفسيره ليس أمامه إلا خياران لا ثالث لهما، فإما أن يتشرّد ويجوع ويضطهد مثلي وبما في ذلك من مهانة وإذلال، أو أنه سيكون إنسان لا يستحق الحياة، فاسد يبيع نفسه لمن يدفع أي (خو..) حسب قوله. المهم أننا انطلقنا وبسرعة للبحث عنه بعد إن تركنا شهدي لوحده بالشقة خوفا عليه من أن يشاهد ما تتوقعه ساشا وترى أنه لا يجب أن يشاهده [وقد كانت ساشا في الحقيقة مبالغة في ذلك، حيث أنني ورغم إدراكي بأن فريد سيتعرّض حتما لمعاملة سيئة وهو في تلك السن التي لم يتجاوز فيها سنة ونصف باعتقادي، لكن خوفي وقلقي عليه لم يذهب إلى ذلك الحد الذي ذهبت إليه ساشا، لكنه بالطبع قلب الأم، وهي أيضاً من رأت نجيب وحالته النفسية حين أخذه منها، وقد حاولت جاهدا وبكل قدرتي على الإقناع تهدئتها وطمأنتها] المهم توجهنا قاصدين (وسط البلد)، وذلك للذهاب أساسا ومباشرة للأماكن التي نعرف أنه متعود على التردد عليها وارتيادها، على الأقل كبداية للبحث، وهكذا قررنا الذهاب إلى [كافيتيريا إكسلسيور ومقهى ريش]، وكنا ونحن في سيارة الأجرة نجول بأنظارنا على الطريق من الجانبين، كل منا اهتم بجانب والانتباه جيدا علنا نشاهده في مكان أو ما، لكننا لم نشاهده إلى إن وصلنا إلى [إكسلسيور]، ترجّلنا من سيارة الأجرة وقصدنا المكان، لكننا لم نجده هناك، غير أنني سألت النادل وكان واقف بجانب أحد الزبائن الجالسين قائلاً:  هل أتى إلى هنا شخص ومعه طفل صغير، فأجابا: - النادل والزبون - مؤكدين لي معاً إن رجلا كان هنا فعلاً ومعه طفل صغير، ثم استطرد النادل ليحكي لنا بالتفصيل ما شاهده قائلاً:  دخل منذ فترة إلى هنا رجل يحمل في حضنه طفلا، كان واضح أن الرجل في حالة نفسية شديدة التوتر والاضطراب ومنفعل جدا، فبعد إن جلس قليلاً على إحدى الطاولات دون أن يطلب شيئا، قام ليحوم حول الطاولات ومتوقفا بجانب كل طاولة يجلس عليها زبون ليأخذ من أمام الزبون شيئاً من الذي أمامه سواء أكان أكلا أو مرطبات أو ما شابه ذلك ليطعم به الطفل عنوة، قائلاً إلى ذلك الطفل الذي لا يفهم شيئاً بالطبع وبصوت عالي: [كل يابني دا حقك وأكلك اللي ماعرفش أبوك يجيبهولك، كل دا بتاعك] وكان الطفل يبكي بكاء مريرا ويصرخ بصوت عال، حاول البعض منعه من القيام بذلك رأفة بالطفل لكن دون جدوى، إذ كان يصدّهم صارخا في وجوههم وأحيانا يشتمهم، غير أن ثمّة شخص كان واضح من حديثه معه أنه كان يعرفه، بل يبدوا أنه على علاقة طيبة به ويحترمه كثيرا، رجاه عدة مرات وحاول جاهدا أن يجعله يتوقف عما يفعل لكنه لم يفلح، فخرج مهرولا ليرجع بعد قليل بصحبة الفنانة [مدام تحية كاريوكا]، التي توجّهت بغيض إلى ذلك الشخص مباشرة لتنتزع الطفل من بين يديه، والغريب في الأمر إنه رغم عدم استجابته لكل الآخرين بمن فيهم من كان واضح أنه صديق له ورفضه لكل محاولاتهم لدفعه إلى التوقف عما يفعل وأحيانا محاولة أخذ الطفل منه، لكنه كان مستسلما لتصرّف الفنانة تحية ولم يعاندها مطلقا، بل سلم لها الطفل وخرج على الفور. من هذه القصة علمنا أن فريد موجود مع السيدة تحية كاريوكا، فذهبنا سريعا إلى مسرحها والفنان/ فايز حلاوه زوجها وهو [مسرح ميامي] والذي يقع قبالة الكافيتيريا مباشرة، لكننا وعند سؤالنا عنها أجابنا أحد العاملين هناك: ما إن ذهبت لإنقاذ الطفل وإحضاره معها وجدت نفسها مضطرة إلى المغادرة على الفور، وغادرت فعلاً إلى منزلها، فسألناه عن عنوان سكنها فكتبها لنا على ورقة، خرجنا مسرعين ولكننا بالطبع شعرنا بالكثير من الاطمئنان فهو في أيد أمينة الآن بدون شك، أوقفنا سيارة أجرة وأعطيناه العنوان، لم يتجاوز الزمن نصف ساعة تقريباً إلا وكنا أمام العمارة التي تقطن بها الفنانة تحية، سألنا البواب ما إذا كانت السيدة تحية موجودة، فأكد لنا ذلك، سألته ساشا أيضاً – لقلقها ولمزيد من التأكد – هل أتت منذ قليل وكان معها طفل صغير، فأكد ذلك أيضا، عندها سألناه عن رقم الشقة وعن الطابق، فوصفه لنا بل إنه صعد معنا، حين وصلنا الشقة دقّت ساشا على الفور جرس الباب، فتحت لنا فتاة تشتغل معها وسألتنا عما نريد، فقالت لها ساشا إننا نريد السيدة تحية وقولي لها إنني والدة الطفل الذي معها، دخلت الفتاة لتعود إلينا مسرعة بعد قليل طالبة منا الدخول، ثم قادتنا إلى الصالون قائلة: ثواني وستأتي المدام إليكم، وفعلاً لم تمر إلا ثواني معدودة حتى أتت الفنانة تحية بلباس البيت حاملة في حضنها فريد الذي بكى فرحا فور رؤيته لأمه، وقد تفاجأت بوجودي، وقد شعرت بشيء من الحرج الذي أحسست أنها شعرت به لخروجها إلينا بلباس النوم خاصة بوجودي أنا، والذي يبدو أن الفتاة لم تخبرها به، حيث يبدو إنها قالت لها فقط والدة الطفل، كانت تحية متأثرة جدا بل وحزينة بعض الشيء – عندها عرّفتها بنفسي ومبرر قدومي مع ساشا – عبّرت لنا عن تأثرها البالغ وقلقها بالأساس على وضع نجيب، ثم أضافت: إنها حمدت الله على إنها وصلت في الوقت المناسب قائلة، من كان يدري ماذا كان سيحدث، وماذا سيكون وضع هذا الطفل الجميل – مشيرة إلى فريد – لو لم أكن موجودة، طالبة من ساشا عدم تركه لنجيب مستقبلا مهما كانت الأسباب، عندها أبلغتها ساشا إنها رفضت وصرخت محتجّة لكنها عجزت عن ذلك لأن نجيب – حسب قولها – استخدم القوة في افتكاك فريد منها وهو في حالة من العصبية والتوتر والهيجان، لكنها أردفت: إنها وبعد هذه المرة ستقاتل بشراسة لتمنع حدوث ذلك مرة أخرى، المهم شكرت ساشا الفنانة تحية كثيراً على موقفها وإنقاذها لفريد، ثم ودّعناها مغادرين. عندما وصلنا الشقة وجدنا نجيب جالس بالصالون في حالة يرثى لها، وقد فرح هو أيضاً عندما رأى ساشا تدخل حاملة فريد في حضنها لكنه لم يعلق بشيء، ولم يكن في حالة تسمح لساشا حتى بتأنيبه عما فعل، لأن نظرات عينيه المنكسرة تقريباً كانت تعبّر عن ندم شديد وتأنيب للضمير، بل ربما حالة من الازدراء وحتى الكراهية للنفس لما كان يمكن أن يلحقه بابنه – ذلك الطفل البريء والذي يحمل له دون شك حبا عظيما بين جوانحه، والذي تصوّر إن في قتله له يكمن هذا الحب الذي سيعفي الابن من أن يحيا حياة ملؤها هذا القدر وهذا الكم الهائل من البؤس والتعاسة الذي يعانيه هو – لولا تدخّل الفنانة تحية كاريوكا في اللحظة المناسبة (وأنا هنا أريد أن أؤكد على أن نجيب في تلك الأثناء لم يكن يدرك ما جرى بدقة في إكسلسيور، ولا حتى من أخذ منه فريد)، وقد كان ينظر إلى ساشا حينها نظرات تحمل الكثير والكثير من الاعتذار في تصوري، لأنه كان في الحقيقة يحب ابناه حد العبادة.

 

 

 

فكر نجيب ونظرته للحياة.. كما رأيتها

 

بداية يمكنني بالطبع أن أصنّف نجيب سرور على أنه إنسان وطني تقدمي بأفق يساري وماركسي واضح، رغم أنه لا يعتقد ولا يؤمن بالانخراط في أي حزب سياسي، حيث قد تولد لديه إحساس بالإحباط واليأس من الأحزاب ودورها وتأثيرها وبراجماتيتها الممجوجة في أغلب الأحيان حسب رأيه، وإنه حتى الأحزاب اليسارية التي تتحدث عن الفقراء، لا تلتصق بهم ولا تعبر بشكل عميق عن همومهم ولا تحس بمعاناتهم وبؤسهم كما يفترض أن تفعل، بل إنه يراها – أي تلك الأحزاب – مجرد متاجرة بهم وبقضاياهم من وراء مكاتبهم الفاخرة. كما إنني أعتقد أن ثمّة سبب آخر وراء موقفه ذاك، والمتمثل في تناقض الالتزام الحزبي مع طبيعته المتمردة والفوضوية – بالمعنى السياسي - والتي تنفر من أية قيود، كما إن له رأي وموقف من كل الأحزاب الموجودة والتي يعتبرها أصلا أحزاب غير ديمقراطية، وأيضاً يرى أن مناوراتها وتكتيكاتها تأتي غالباً على حساب حتى ما يعدّ مبادئها الأساسية، وقد يصل الأمر بها إلى إتخاذ مواقف تتناقض مع شعاراتها المعلنة، حدّ أن تكون انتهازية بل وغير أخلاقية، لذا هو يفضّل النضال خارج هذه الأحزاب – كما يرى ويعتقد إنه النضال الحقيقي – وذلك بالنضال على طريقته ووفق رؤيته وأسلوبه الذي أعدّه [بيوريتاني] بل ورومانسي حالم، والمؤمن بشكل عميق وحقيقي بالفقراء وبعيدا عن الشعارات الرنّانة، حدّ أنه يعتقد بالأهمية الكبيرة في أن يعطي طفلا شحّاذا الجنيه الوحيد الذي يملكه، إنه حقا [الحالم العظيم] الذي يذكرني [بجيفارا] مع الفارق بالطبع، ويصل به موقفه المتطرف من التنظيمات السياسية إلى درجة إنه ينتقد بشدة حتى المنظمات الفلسطينية التي يراها ويتهمها بالتواطؤ مع الأنظمة الديكتاتورية والرجعية في المنطقة، وهذا ما يعتقده التفسير الوحيد لذلك المستوى من التسهيلات بل حتى المساعدات التي تحظى بها - خاصة بعض التنظيمات – من أنظمة تدّعي أنها نقيضها وعدوّة موضوعية لها، ويصف هذه التنظيمات بأنها [مجرد دكاكين تبيع بضاعة فاسدة]، وأن النضال الحقيقي يخوضه فقراء الفلسطينيين وفقراء مصر الجوعى والفقراء في كل أنحاء العالم وحدهم، وإن نضال البعض المزعوم لا يعدو أن يكون ارتزاقا على حساب عرق ودموع والبطون الخاوية لذلك الجيش من الفقراء، والذي لا يعيره في الواقع أصحاب تلك الدكاكين الحزبية والتنظيمية الكثير من الاهتمام، رغم التشدّق ليل نهار بالشعارات المنتمية للفقراء المرفوعة كواجهة لنضالها المزعوم، وفي أحسن حالاته غير الجاد لأنهم يعيشون واقع مختلف، واقع يمكنهم – من خلال ورغم ألاعيبهم السياسية تلك – من أن يعيشوا حياة الجاه والترف البعيدة كل البعد عن حياة الفقراء المعدمين الذين يتاجرون بقضاياهم وبمعاناتهم، ولا يستثني القلة بالطبع.

كما كانت له نبوءته الدائمة حول اليهود، والتي أثبتت الأيام صدقها، وكأنه يرى بعيون زرقاء اليمامة حسب ما عبّر الدكتور/ أبوبكر يوسف ويرى ما لا نراه. إذ كان يكرر على مسامعي دائماً – وكان ذلك في أواخر عام 1972، ولم تكن وقتها قد قامت الحرب وما نتج عنها من اتفاقيات [كامب ديفيد] – بأنه يرى العلم الصهيوني يرفرف في سماء القاهرة، وكان هذا الأمر في حينها أمر شبه مستحيل وغير وارد بالمرة بل ربما ضرب من الخيال، كما كان يشير بأصبعه إلى بعض وجوه المارة قائلاً لي: ألا ترى هذا الشخص أقسم إنه يهودي، مكررا ذلك باستمرار مشيرا إلى العديد من الأشخاص، وخير مصداق لهذه النبوءة قصيدته الشهيرة التي يقول في أحد مقاطعها: [لو طبّوا بكره اليهود يامصر وخذوكي، والله ما حيشيلوا من فوق الكراسي حد، حيلاقوا مين يحكمك غير اللي باعوكي، مفروشه ليهم وقدم سبت تلقى الحد، مبروك عليك البلد ياموشى يادايان، تخش تاخذها بس من غير حرب، أمله مايحلم بها ولا حتى جنكيزخان، الله يجازي اللي خلا...........].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخــــــــــــاتمة

 

أخيراً، فجأة وعلى حين غرة أتى ذلك القرار الذي أبلغتني به الجهة المشرفة على تدريبنا بضرورة الانتقال سريعاً إلى الإسكندرية لاستكمال دراستنا وتدريبنا هناك، كان ذلك الخبر مؤلم حقاً لي وبكل المعاني، فأنا أدرك أن مغادرتي تلك سيترتب عنها وبشكل مباشر ترك نجيب وأسرته إلى مصيرهم والذي لن يكون للأسف الشديد إلا الشارع، لكن ماذا عساي أن أفعل وليس باليد حيلة، إذ ليس بإمكاني إلغاء أو حتى تأجيل أمر النقل إلى الإسكندرية، كان حقاً موقف مؤلم وصعب لا أحسد عليه، لكن الأمرّ على نفسي هو كيف لي أن أواجه نجيب وأبلغه بهذا الخبر الذي كان يبدو مرعبا بالنسبة لي، فما بالك بالنسبة له، لكن لم يكن ثمّة مفر من ذلك بالطبع، وكل ما استطعته تأجيل المسألة يوم أو يومان وهو تصرّف لا معنى له في الحقيقة، إذ لن يقدّم ولن يؤخر الكارثة الوشيكة الحدوث، لأنه ببساطة ما من حل كان يمكن أن يلوح في الأفق في هذه الأيام المعدودة التي تفصلني عن الغادرة إلى الإسكندرية، وقد جرّب نجيب حل لهذه المشكلة في السابق دون جدوى ولا أعتقد أن شيئاً قد تغير، وإذ بات أمر إبلاغه ضروري ولا معنى لتأجيله أكثر قررت مواجهة ذلك والقيام بتلك الخطوة المحتمة، غير أنني كنت متحيرا في أن أبلغ نجيب أولا أم ساشا أم كليهما معا، ولا أدري الآن لماذا قررت أن الأفضل أن أبلغهما معا، وفعلاً هذا ما حدث، اخترت فترة ما بعد الظهر، أذكر الآن إن الساعة كانت حوالي الثالثة ولم يكن نجيب قد أفاق من نومه إلا منذ فترة وجيزة، وقد أصبح في الفترة الأخيرة ومع سهره طوال الليل يستيقظ باديا عليه التعب والإنهاك الشديد، وأحيانا أشعر أنه يحس بآلام ممضّة رغم أنه لم يكن يصرّح بذلك، وكانت حالته النفسية في غاية السوء، وحتى جسمه غدا أكثر ضعفا وهزالا، ووجهه صار ذابلا ويعلوه قدر من الشحوب، عيناه منطفئتان تحوطهما هالة من السواد من آثار السهر الدائم رغم نظراتهما الحادة كالصقر. كان جالساً بالصالون بينما ساشا لا أدري ما إذا كانت في غرفتها أم منصرفة إلى بعض شؤونها، خرجت لأشتري علبة سجائر وعندما عدت طلبت من المرأة التي تشتغل معنا أن تعد لنا شاياً أنا ونجيب وساشا، ثم ناديت على ساشا طالباً منها القدوم للجلوس معنا بالصالون، وما إن جلسنا معاً حتى جاءت أكواب الشاي، لا أدري ما إذا كانا قد خمّنا إن في الأمر شيء ما غير عادي بعد طلبي من ساشا الجلوس معنا، لأنني لاحظت قلقاً يشع من نظراتهما، أم أن ذلك أمر تهيأ لي ناتج من قلقي أنا، ونحن جميعاً في الحقيقة نعيش فترة وظروفاً لا تحمل فيها الأيام إلا الأخبار غير السارة، لكن لعل لسان حالهما كان يقول: (وهل هناك ما هو أسوأ من الوضع الذي نحن فيه)، لذا فإنني في اللحظة الأخيرة كدت أبتلع لساني وأتوقف عن إبلاغهما ما كنت أنوي إبلاغهما إيّاه، فأنا أدرك هول الخبر، وهو بالطبع أسوأ جداً من الوضع السيّء الذي هما فيه فعلا. حسمت أمر ترددي قائلاً:  لقد أُبلغنا أنا وعبدالكريم [أحد زميليّ] بضرورة الانتقال إلى الإسكندرية في غضون أيام، وربما سنسافر غدا أو بعد غد للبحث عن شقة هناك، ثم نعود هنا لتجهيز أنفسنا للانتقال، وقد سألت السفارة عن أيّة إمكانية لي للبقاء هنا في القاهرة، غير أنهم أكدوا أن قرار النقل قد أتخذ ولا يمكن التراجع عنه، إذ قد تمّت كل الترتيبات مع الجهة المصرية المشرفة على التدريب، ثم أضفت: غير أنه يسرّني جداً بالطبع لو تقررون الانتقال معي إلى هناك. لم يرد كلاهما، كانت فترة صمت أحسسته ثقيلا وطويلاً، أثقل على قلبي وروحي وأنا أنظر إلي أعينهما التي عكست نظرات حائرة تنظر إلى لا شيء، لم تتمكن شفتاهما من النطق بأيّة كلمات، فماذا عساهما يقولان!؟ وفي ماذا عساهما يفكران!؟، هما دون شك يفكران في اللاشيء الذي ينظران إليه، في الفراغ السحيق والهوة العميقة التي كانا يريانها دون شك تتسع لابتلاعهما، إن معاناتهما ليس لها حدود ومأساتهما بئر عميقة ليس لها قرار، حينها لم تتمكن عيناي من حجب دموع حارة ترقرقت ثم انحدرت على خدي حارقة كالجمر، خجلت من تلك الدموع، لأنه كان يتوجّب عليّ أن أكون أكثر قوة وصلابة، فأنا الذي من المفترض أن أحاول منحهما قدر من القوة والصلابة والتماسك، لكن على ماذا وإلى متى يمكنهما أن يصبران!؟ على هذا العالم المتوحش والمرعب الذي لم يرحمهما!؟ أم على هذه البشاعة التي تملأه!؟ وما هذه اللإنسانية السوداء!؟، لكن ما لبث نجيب إن خرج عن صمته قائلاً:  لا تقلق، دون شك سيكون ثمة حل، في أسوأ الظروف يبرز دائماً حل من جوف العدم، فمن كان يخطر على باله أنك ستكون منقذنا عند بداية أزمتنا وطردنا من شقتنا، فلا تقلق يا أخي وصديقي العزيز [مراد] وهوّن على نفسك لأننا حتما سنتدبر أمرنا. لكن هذه الكلمات المغلفة بالقوة والتفاؤل، والمتضمّنة لذلك القدر الهائل من المرارة والألم الذي يفطر القلب ويعتصره عصراً، جعلت الدموع تنهمر من عيني وأنا لا أرى ولا أسمع أو أحس بمن حولي، ولا قادر حتى على أن أكون مراعيا لأثر دموعي تلك عليهم، وكأنني أنا صاحب المشكلة وليس هم، ألوم نفسي وكأنني أتخلى عنهم وأهرب تاركا إيّاهم لمواجهة مصيرهم التعس، لماذا يحدث لي هذا!؟، هذا ألم من نوع لم أكن قادرا على تحمّله ولم أجرّبه في حياتي قط، أتت ساشا لتجلس إلى جانبي مربتةً على كتفيّ راجية إيّاي أن أتوقف، ثم كررت ما قاله نجيب قائلة: لا تقلق سنجد حلاً وربما نأتي إليك في الإسكندرية. لا أدري كيف مرّت تلك الأيام القليلة قبل مغادرتي، فلم يعلمني نجيب أنه قد قام بأيّة محاولة لإيجاد سكن بديل ولا أظنّه قد فعل، فهو كما قلت كان في تلك الفترة في حالة سيئة جدا، وأنا أيضاً لم أسأل إذ أنني لم أرد مواجهة ما أتوقعه من شبه انعدام لإمكانية وجود الحل. في اليوم المقرر للمغادرة، وكان ذلك في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر 1972، ودّعتهم واعداً إيّاهم بأنني سأزورهم في أقرب وقت ممكن، ثم غادرت بعد أن طلبت من صاحبة الشقة أن تبقيهم مقيمين بها إلى آخر ذلك الشهر الذي أعتقد أنه تبقى منه أسبوع أو عشرة أيام.

ومن يومها لم أر للأسف الشديد نجيب سرور ولا أسرته إلا بعد ثلاثة سنوات، إذ غادرت إلى الإسكندرية، وبعد حوالي شهر أو أكثر قليلاً من إقامتي هناك اضطررت للدخول إلى المستشفى من أجل إجراء عملية جراحية على أذني التي أصبحت تؤلمني كثيراً، وقد كنت أعاني من التهاب حاد في الأذن الوسطى، بقيت بالمستشفى حوالي أسبوعين، ثم بقيت في البيت لفترة أخرى دون أن أخرج منه، في تلك الأثناء قدم لزيارتي من ليبيا اثنان من الأقارب بقيا مقيمين معي حوالي عشرة أيام. ولكن فجأة ودون أي توقع للأمر طلبت منا القنصلية الليبية بالإسكندرية الاستعداد للمغادرة إلى ليبيا في غضون أسبوع، وقد كنا نتوقع في الحقيقة البقاء لمدة سنة أخرى. وهذا ما حدث غادرت تقريباً في آخر يوم من شهر فبراير سنة 1973. بعد عودتي إلى ليبيا تم اعتقالي في العشرين من شهر أبريل من نفس السنة لأبقى في المعتقل حوالي تسعة أشهر أي إلى آخر شهر ديسمبر، ثم اعتقلت مرة أخرى في شهر أغسطس سنة 1975 لأبقى بالسجن حوالي ثلاثة أسابيع وقد كنت حينها ممنوع من السفر، لكنني في نهاية تلك السنة وبعد محاولات كثيرة طوال الفترة الماضية أفلحت مطالبتي لإدارة المباحث العامة في الموافقة لي على السفر أنا وأخي الأصغر [الطاهر] والذي اعتقل معي في المرتين السابقتين، حينها مباشرة قررت السفر إلى القاهرة أنا وأخي وقريب لنا وذلك في شهر ديسمبر من السنة نفسها، لأقابل نجيب سرور بعد ثلاثة سنوات من فراقي له كما ذكرت سابقاً.

عندما وصلت إلى القاهرة، كان أول شيء قمت به هو الذهاب إلى مقهى ريش للسؤال على نجيب، علني أجد شخصاً يعرف عن أخباره شيئاً، لكنني أول ما دخلت المقهى وجدت شخصاً أعرفه قليلاً ويعرف نجيب – لا أذكر هذا الشخص الآن – سألته أتعرف عنوان نجيب أو أين يمكنني أن أجده؟ فقال لي: أن نجيب يأتي بشكل متقطع إلى هنا لكنني للأسف لا أعرف عنوانه، فأعطيته عنوان ورقم هاتف الشقة التي أقطنها، طالباً منه أن يعطيهم لنجيب عندما يقابله، ويقول له أن صديقك [مراد] هنا ويريد أن يقابلك فوراً، فوعدني بأن يقوم بما طلبت منه ثم ودّعته وانصرفت، ربما بعد يومين أو ثلاثة لا أذكر الآن، قال لي أخي الطاهر - حيث لم أكن موجوداً بالشقة حينها – أن نجيب قد اتصل وحدد موعداً يمكننا أن نلتقي فيه، وذلك عند الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم بمقهى ريش، ذهبت في الموعد المحدد بالطبع وكان لقاءً مشحوناً بالعواطف الجيّاشة ومليئاً بالمودة والحب، وجدت أن صحته قد صارت أفضل مما تركته، كما بدا لي أن حالته النفسية أيضاً جيدة، أخبرني وبفرح غامر إنه وللمرة الأولى في حياته يكون له بيت مملوكا له في بلده، وهو سعيد لذلك وكأنه يمتلك قصراً لا بيتاً متواضعاً في حي متواضع، إذ وجد أخيراً بيتاً يأويه هو وأسرته، ولا يستطيع أيّ كان أن يخرجه منه ويضمن عدم تشرّده من جديد، كما أخبرني أنه تمكن من العودة أخيراً للعمل أستاذاً بالمعهد العالي للفنون المسرحية، دردشنا كثيراً وسألته عن حال ساشا والأولاد فقال أنهم بخير، ثم دعوتهم جميعاً للغذاء معي في اليوم التالي فوافق قائلاً:  إنهم – أي ساشا والأولاد – سيكونون مسرورين لرؤيتي غداً، في الموعد المحدد قدموا جميعاً وقد كنت أقيم بشقة في منطقة الزمالك، فرحت بهم ورحبت بهم بسعادة كبيرة، تغذينا معاً هم وأنا وأخي الطاهر وقريبي، تقابلت معه عدة مرات في مقهى ريش، وذات يوم وكنا بالمقهى ظهراً قال إنه مضطر للذهاب إلى المعهد حيث موعد محاضرته واقترح عليّ أن أذهب معه فوافقت وذهبنا سوياً، دخلنا صالة المحاضرة جلس مع مجموعة من الطلبة والطالبات بينما جلست أنا على مسافة أراقبهم عن بعد، أذكر الآن أنهم مجموعة من الشباب والشابات الممتلئين حيوية كانوا يتحلقون حوله، كان يعطيهم تقريباً مادة أصول الإلقاء على خشبة المسرح بطريقته البسيطة والكوميدية والصارمة في نفس الوقت، أذكر أنه انتقد مستنكراً أداء إحدى الفتيات وهي تقوم بدور فلاحة وذلك بسبب طريقة أدائها التي عكست نوعاً ما سخرية من (الصعايده) في حركتهم وكلامهم الذي يظهرهم كأغبياء، قائلاً: إن أغلب المسلسلات والمسرحيات المصرية تسخر منهم وتستخدمهم مادة للضحك والتندّر والتهكّم عليهم، لكنه كان يقول ذلك الكلام رغم صرامته بحنو وحب، استمتعت بتلك المحاضرة وأنا أتابع ذلك الحوار والأداء من مكاني، وعندما انتهت المحاضرة قدّمني إلى تلك المجموعة ودعاني لأن أسلم عليهم، ثم خرجنا لنقابل في ممرات المعهد العديد من الفنانين المسرحين وليتبادل معهم نجيب السلام والتحيات ويقدمني إلى كل منهم باعتباري أخيه وصديقه العزيز من ليبيا، خرجنا إلى الشارع لنستقل سيارة أجرة عائدَين إلى مقهى ريش (علمت لاحقا إنه لم يستمر في التدريس طويلاً بالمعهد، إذ تم طرده مرة ثانية من قبل الأستاذ [رشاد رشدي]، إذ اعتبره شيوعياً ولا يتوجب أن يستمر أستاذا بالمعهد). كما دعاني في مرة أخرى أنا وأخي إلى سهرة جميلة في شقة القصاص والكاتب [عبده جبير] بالغورية، كان فيها عبده جبير بالطبع مع صديقته الأيرلندية أعتقد أن اسمها [جين]، والشاعر [نجيب شهاب الدين] وصديقته الفرنسية، كما كان موجوداً الشاعر [أحمد فؤاد نجم] والفنان المغني [الشيخ إمام عيسى]، والشابة الجميلة المطربة [عزة بلبع] قبل أن يتزوجها أحمد فؤاد نجم بالطبع، قضينا وقتاً جميلاً واستمتعنا بتلك السهرة الشيقة إذ تم فيها إلقاء الشعر وغنينا معاً حتى ساعات الفجر الأولى. مما أذكره أيضاً أن المسرح القومي كان تقريباً قد عرض له قبل أن أصل القاهرة بفترة قليلة مسرحية [منين نجيب ناس]. وإذ كان لابد لتلك الرحلة أن تنتهي أتى يوم الرحيل حيث ودعت نجيب وأسرته في اليوم السابق له، إذ كان مقرر أن نغادر باكراً في صباح اليوم التالي، سافرت وأنا مرتاح لوضعهم بشكل عام ولصحة نجيب بشكل خاص. لا أدري الآن ما سرّ عدم سؤالي عن أحوالهم وماذا حصل معهم بعد مغادرتي لهم إلى الإسكندرية في ديسمبر 1972، هل هو حرج أو خوف من الإجابة وتوقعي بأنها كانت فترة مريرة، أنا فقط لا أدري فحسب.

في أواخر شهر أكتوبر سنة 1978 [وكان قد توفى بتاريخ 24 أكتوبر 1978]، وبينما كنت في زنزانتي الانفرادية حيث كنت قد اعتقلت منذ شهر مارس من نفس السنة، كنت أثناءها قد تم تقديمي إلى محكمة الشعب والتي كانت جلساتها لاتزال مستمرة، وقد حكمت لاحقاً من قبلها بالسجن لمدة أربعة سنوات وبقيت في السجن عشرة سنوات كاملة، وصلتني صحيفتان – لا أدري الآن ما إذا كان إرسالهما لي عن قصد لأقرأ هذا الخبر، أم كان ذلك مجرد صدفة – وهما صحيفة ليبية هي [الأسبوع الثقافي] والأخرى لبنانية هي [السفير]، وقد قرأت فيهما ذلك الخبر الفاجع، ففي صحيفة الأسبوع الثقافي قرأت خبراً مختصراً عن وفاة الشاعر والمسرحي نجيب سرور، الذي فارق الحياة حسب الخبر منذ عدة أيام، كما قرأت في جريدة السفير مقالاً تأبينياً للكاتبة المصرية [فريدة النقاش] ترثي فيه هذا الشاعر والمسرحي الكبير عن عمر يناهز السادسة والأربعين عاماً، بعد رحلة طويلة مع المرض ومن الاضطهاد والعذاب والتشرّد، مات بعد إن قضى فترة طويلة بمستشفى الأمراض العقلية بالإسكندرية. وقع عليّ ذلك الخبر في محنتي تلك وقع الصاعقة، كان ألمي وحزني شديد وبشكل لا يمكن وصفه، أعادني لشريط ذكرياتي مع نجيب مراراً وتكراراً، فكرت في المحنة الطويلة لهذا المناضل الفذّ وهذا الإنسان المتميز، وكيف حمل صليبه على كتفه بدون كلل أو ملل، كيف وهب حياته وشبابه وكل عمره من أجل حب مصر وحب فقرائها، كيف سطع كالبرق في سماء هذا الوطن العربي التعيس بحكامه وناهبي قوت فقرائه ومبددي ثرواته ومزيفي وعي شعوبهم، بكل ترسانتهم الأمنية والقمعية، بكل انتهازييه والمتاجرين بعرق ودماء شعوبهم والمفرّطين في تراب أوطانهم. كان نجيب سرور مزيجاً نادراً وفذّاً من التمرد والثورة والطهرانية واليأس والأمل والضمير الحي لشعبه، وبفكره النافذ إلى أعماق الحقيقة ووعيه المبكر بمصائب الأمة.

يقول الدكتور/ أبوبكر يوسف: [كيف اجتمع في نفس نجيب ذلك الضياع الخانق واليأس المطلق مع هذا الإيمان الحار بعدالة النضال من أجل الحرية والثورة على الظلم والاضطهاد]. [8]

لقد كان نجيب شخصية استثنائية بكل المقاييس، اتفقت أم اختلفت معه، لكن لا يمكنك إلا أن تحبه وتحترم خياراته في الحياة، إنه من أحب مصر وفقراءها إلى تلك الدرجة التي وصلت حد التقديس، الأمر الذي رأيته وعايشته وخبرته، ذلك الموقف وتلك الرؤية لا يمكن إلا أن يكونا على صواب، فهو يكفيه كونه لم يكن يوماً إلا صادقاً مع نفسه ومع قيمه ومبادئه متمسكاً بها مهما كانت خسائره التي طالت جوع أطفاله وعريهم وتشردهم، لم يعرف المهادنة يوماً، حتى وأطفاله الجوعى يتم إلقاؤهم في الشارع بلا مأوى يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء، لقد كان بحق [دون كيخوت] هذا العصر ونبيه وحامل صليبه.

عندما خرجت من السجن في شهر مارس سنة 1988، تمكنت من السفر إلى القاهرة في صيف سنة 1990، وبمجرد وصولي إلى هناك كان هدفي معرفة أخبار ساشا وأبنائها، وهل هم لازالوا بمصر أم رحلوا عنها، وتمكنت فعلاً من اللقاء بها بعد إن عرفت إنها لازالت بمصر ولم تغادرها إلا فترة قصيرة، وذلك بعد إن اتصلت بها هاتفياً وحددنا موعد للقاء، حكت لي كيف مات نجيب وحيداً ببيت أخيه بعد إن أمضى فترة طويلة بمستشفى الأمراض العقلية بالإسكندرية، وكانت هي حينها – أي عند وفاته – غير موجودة بمصر إذ غادرت إلى روسيا لأنها – وحسب قولها - لم تجد وسيلة للعيش تمكنها من البقاء معه في محنته وأعرف أن علاقة أسرته بها ليست جيدة، كما إنها كانت تحاول تمكين ابنيها من الالتحاق بالمدرسة بروسيا وقد ضاعت فرصتهما لمتابعة الدراسة بمصر، كما أخبرتني بما لم يخبراني به في لقائنا السابق سنة 1975، وما جرى معهم بعد فراقي لهم في أواخر سنة 1972، إذ قالت إنهم ذهبوا بعد ذلك مباشرة إلى الإسكندرية للإقامة مؤقتاً عند أخت لنجيب، لكنه سرعان ما تدهورت حالته النفسية أكثر فأكثر وأدخل لمستشفى الأمراض العقلية هناك (الغريب إن ذلك كان في الشهرين الأوليين من تلك السنة 1973، وقد كنت فيها أنا أيضاً في الإسكندرية لكننا لم نلتق حتى ولو لمرة من قبيل الصدفة) لتتحسن حالته بعد فترة بشكل معقول. رجعوا بعدها إلى القاهرة، حيث تمكن من الحصول على سكن خاص مملوك له، وأيضاً تمكن من العودة إلى العمل بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي طرد منه مرة أخرى، الأمر الذي أشرت له سابقاً.

الآن وبعد هذه السنوات، ونحن في شهر أكتوبر 2008 لازلت على صلة وثيقة بساشا وشهدي – الذي يعيش الآن بروسيا بعد إن هرب من حكم بالسجن صدر ضده لنشره قصيدة لوالده على موقعه الإلكتروني - وبفريد. أسافر إلى القاهرة كثيراً وأراهم بالضرورة في كل رحلة أقوم بها إلى هناك.

وفي الختام لا يسعني إلا أن أحيي المرأة المناضلة الوفية والصابرة [ساشا كورساكوفا] زوجة نجيب، على وقوفها الثابت والدائم والداعم لنجيب طوال سنوات محنته التي عاشتها معه يوم بيوم طوال ثماني سنوات مريرة، وذلك منذ السماح لها بالالتحاق بزوجها سنة 1970 - حيث كانت ممنوعة من ذلك من قبل النظام المصري منذ رجوع زوجها من بودابست – إلى حين وفاته سنة 1978، كانت بحق ثماني سنوات في غاية الصعوبة، بل بالأحرى في غاية البؤس والتعاسة، بسبب الظروف التي عانى منها نجيب وعانتها معه، وأيضاً ما عانته منه بسبب طباعه وتوتره الدائم – رغم حبه الشديد لها والذي كثيراً ما عبّر لي شخصياً عنه – ولم يكن بمقدور إنسان بتقديري أن يتحمل ما عانته وكابدته من مضايقة واضطهاد وتشريد وتجويع إلا امرأة مثلها، كما لابد أن أكبر فيها إصرارها على البقاء بمصر كل هذه السنوات بعد وفاة نجيب وعدم تركها لها، وليس من هدف لها في هذه الحياة الآن إلا أن تتمكن من نشر كل ما خطّه نجيب وكتبه، وترى إن هذا الأمر أمانة في عنقها بل ربما المبرر الوحيد لبقائها على قيد الحياة، بعد إن أنجزت مهمتها مع أبنائها وقد كبروا وأصبحوا رجالاً، رغم المصاعب والعراقيل التي واجهتها ولازالت تواجهها وحدها وبأصدقاء قلائل في سبيل تحقيق هذا الهدف المهم والكبير، والذي قد يجعل نجيب يستريح في قبره قليلاً، وبالفعل يرجع لها الفضل في متابعة وإنجاز الشيء الكثير من هذه المهمة، والتي لولاها لما كان ليرى النور ذلك النتاج المهم لعبقرية نجيب في العديد من المجالات التي أتقنها وأنتج من خلالها أعماله الرائعة والخالدة.

فتحية لها من كل قلبي، واحترامي وحبي الشديد لهذه المرأة المتميزة والاستثنائية.

 

انتهت بتاريخ 20 أكتوبر 2008

(أي في الذكرى الثلاثين لوفاته) - إذ توفى بتاريخ 24 أكتوبر 1978

 



[1] - عن مقال للدكتور/ أبوبكر يوسف بعنوان (نجيب سرور.. مأساة العقل).

[2] - نفس المصدر السابق.

[3] - نفس المصدر السابق.

[4] - نفس المصدر السابق.

[5] - نفس المصدر السابق.

[6] - نفس المصدر السابق.

[7] - نفس المصدر السابق.

[8] - المرجع السابق

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.