(قصيدة النَّثْرِيْلَة لدى منال العويبيل- نموذجًا)
بقلم: الأستاذ الدكتور/ عبدالله بن أحمد الفَيفي
[الحلقة السادسة]
تأتي تجربة منال العويبيل الشِعريّة والثقافيّة بمثابة بشارة تسير بين تطرّفات شتّى في الوسط الأدبي والثقافي المحلّي والعربيّ، بين صوتيٍّ وبصَريٍّ، بين محافظةٍ ودعوَى جرأةٍ وصخبِ تهتّكٍ إعلاميّ، بين نسويّةٍ وذكوريّةٍ، قدامةٍ وحداثةٍ، نثريّةٍ وشِعريّةٍ، إلى نهاية هذه التيارات الثنائيّة المتقارضة، تمزّق الأحشاء والوجوه. ولعل وعيها الفنيّ التشكيليّ قد عصمها من الأمواج الذي تجتاح كثيرًا من أبناء جيلها وبناته. أولئك الذين اتخذوا القضيّة الأدبيّة حماسيّات وحزبيّات، وعقائد وأيديولوجيّات، فالتجديد لدى فريق يعني القفز على اللغة والتراث، فيما الأصالة تعني العيش في كهوف الماضي لدى فريقٍ مضادّ، فلا جدّد هنالك المجدّدون ولا أصّل المحافظون!(1)
في قصيدتها "ابتسم أنتَ في الرياض"(2)، سنقرأ:
مَدِيْنَتِي/ تُدَخِّنُ/ رُوَّادَهَا/ كَالسَجَائرِ المَهِيْلَة
لا تُبْـ/ـكيكَ/
لا تُضْـ/ـحككَ/
تَصْلبُ/ عَلَى وَجْهِكَ شِفَاهًا سَتَعِيْهَا /حِيْنَ تَخْـ/ـتَلِقُ/ فِي الصَّبَا/حَاتِ لُطْ/ـفاً
لا/ يَجِيء !
فَاحذَرْ/ فِي هَزِيْـ/ـعٍ مِنَ الـ/ـوِحْدَةِ/ شَمَاتَتَهَا
سَتَضْحَكُ/ حِيْنَهَا/ مِلْءَ الشْـ/شِـدْقَيـ/ـنِ
عَلَيْك!/
يَا هُنَا!/
يَا للهَنَا!/
اِبْتَسِمْ/ أَنْتَ فِي الرْ/رِيَاض
* * *
شَهِدَ/ شَاهِدٌ/ مِنْ أَهْلِهَا:
‘‘ أَذْكُرُ/ أنِّي _/ ذَاتَ دَرْ/بٍ _ اِبْتَسَمْـ/ـتُ لِنَخْلَةٍ/
فَاحْمَرْ/رَ بِسْرُهَا/
مدَّتْ/ مِنْ خُضْـ/ـرِ السَّعَفِ/ كَفَّهَا/
فَمَا أَنْ/ رَاوَدَ الـ/ـودُّ كَفْـ/ـفِي عَنْ/ سَلامِهَا/
تَنَحْنَحَتِ الـ/إِشَارَةُ : أن/ اعْبُرُون ‘‘
/يَا هُنَا!/
/يَا للهَنَا!/
اِبْتَسِمْ/ أَنْتَ فِي الرْ/رِيَاض
وعلى هذا النحو تمضي. ويُلحظ هاهنا خليط من الوحدات النغميّة، على النحو التالي:
1. تبدأ وحدة نغميّة مكوّنة من سببين خفيفين ووتد مجموع: (مستفعلن)، قد يلحقها زحاف الخبن: (مُتَفْعِلُن)، أو الطيّ: (مُسْتَعِلُن).
2. قد تصبح تلك الوحدة مكوّنة من سببين، أحدهما ثقيل والآخر خفيف، ومن وتدٍ مجموع: (متفاعلن)، كما في "ـتِ لنخلةٍ".
3. تتردّد وحدةٌ أكثر من غيرها مكوّنة من سببٍ واحد خفيف ووتد مجموع: (فاعلن)، بتشكيلاتها المختلفة: (فاعلن)، (فَعِلُن)، (فاعلْ)، (فاعلُ).
4. تَعْرِض وحدةٌ نغميّة، هي مقلوبة الوحدة المذكورة في (الفقرة2)، مكوّنة من وتد مجموع وسببين، أولهما ثقيل والآخر خفيف: (مفاعلَتن)، في: "تَنَحْنَحَتِ الـ/ إِشَارَةُ : أن".
وقد تولّدت الوحدتان الرئيستان (فاعلن- مستفعلن) من اللازمة المكرّرة في نهاية كلّ مقطع:
يَا هُنَا! | يَا لَلْهَنَا! | اِبْتَسِمْ | أَنْتَ فِرْ | رِيَاضْ |
o||o| | O||o|o| | o||o| | o||o| | oo|| |
فاعلن | مستفعلن | فاعلن | فاعلن | مُتَفْعْ |
والشاعرة كانت تنظر في قصيدتها إلى قصيدة بدر شاكر السيّاب "أنشودة المطر"، يدلّ على ذلك تناصّها مع تلك القصيدة في مثل قولها:
مَطَرٌ
مَطَرْ
عَرَجَت الصَلَوَاتُ عَلَى أكتافِ الـمَآذِن
‘‘ صَعَدَ الدُّعَاءُ ..
مَطَرٌ نَزَلْ ‘‘
وَكُلَّمَا رَحَلْ ..
تَرَكَ فِي العَيْنَيْنِ غَيْمَتَيْن
‘‘ مَا مَرَّ شِتَاءٌ
والرِّيَاضُ لَيْسَ فِيْهَا
دُمُوْع ! ‘‘
مع توظيفها عنصر "المَطَر" بدلالة ملتبسة بين استجابة (الغيث) حضورًا، وتخليف (الحُزن والدموع) رحيلاً، فيما وظيفة "المَطَر" في قصيدة السيّاب كانت أقرب إلى التعبير عن: نزول الشرّ، والانتقام، والجوع، والموت، وهطول الفواجع، وإنْ كان الشاعر يمنحه في نهاية الأنشودة فرصة: الإزهار، والابتسام، والتورّد، والحياة(3).
وقصيدة السيّاب على (مستفعلن)، كما هو معروف، تلك الوحدة النغميّة المتجاوبة في تضاعيف نصّ منال. ولحرص الشاعرة على التنغيم، فقد ضبطتْ "مطَرٌ مطَرْ" هكذا، لتكوّن وحدة نغميّة على (متفاعلن)، مقابلة: "مطَرٌ نزلْ".
والتقفية كذلك ملازمة لنصوص العويبيل. وهي تتنوّع في قصيدة "ابتسم أنت في الرياض". ففضلاً على اللازمة المردّدة في نهاية كل مقطع، التي تجيء بمثابة قافية (ضاديّة) تربط مقاطع النصّ، هناك قافية النون، المنطلقة منذ مطلع النص: "وَاو طَاء نُون.. هَذَا البَلد الحَزِيْن.. أنِ اعْبُرُون... غَيْمَتَيْن... سَتَكُون... فَحَتَّى تَكُون". إلى جانب تشكيلةٍ من القوافي، أو شِبْه القوافي، الداخلية، المتداخلة: "تُبْكيك... عليك... أَهْلهَا... بِسْرهَا... كَفّهَا... سَلامهَا... نِشَاءهَا... مِشْوَارهَا... آنَاءها... البعَاد... صَبْرهَا... السَوَاد... لِغَيْرهَا... العَجَاج... العَجَاج... نَزَلْ... رَحَلْ... الزُجَاج". وهو ما يُلحظ في نصوص أخرى لديها، كنصٍّ بعنوان "عفا القلب عمّن مضى"، أو "كلّ ما منكِ حاضرٌ عداكِ"، وغيرهما.
ولا تقف تجربة العويبيل عند هذا الحدّ من استخدام التفعيلة، بل إنها لتبتكر منها تشكيلات منتظمة، تؤكّد وجاهة هذه الأطروحة الذاهبة إلى أنها بصدد اكتشاف شكلٍ شِعريّ جديد غير مكتشف من قبل وتسميته، هو: "شِعر النَّثْرِيْلَة". وسوف أستقرئ ذلك في الحلقات اللاحقة من الدراسة.
أ. د. عبدالله بن أحمد الفيفي
أستاذ النقد الحديث- جامعة الملك سعود
16- 2- 2011
(قصيدة النَّثْرِيْلَة)
الأستاذ الدكتور/ عبدالله بن أحمد الفَيفي
[الحلقة الخامسة]
[الحلقة الرابعة]
[الحلقة الثالثة]
[الحلقة الثانية]
[الحلقة الأولى]