3

:: فوبيا البقاء ::

   
 

التاريخ : 23/03/2011

الكاتب : خيري حمدان   عدد القراءات : 1568

 


 

 

لا أدري كيف حدث كلّ هذا، أذكر فقط أنني شعرت بدوار شديد حين كنت بمحاذاة غرفة تبريد عملاقة، ثم سقطتُ بالقرب من بضعة صناديق قديمة، بقيتُ هناك فترة غير محددة من الزمن. أدركت بعدها لدهشتي الكبيرة أنها امتدت لعقود طويلة. كان قد تجمّع من حولي مجموعة من الأطباء، أخذوا يطرحون عليّ أسئلة لم أفهم جزءًا كبيرًا منها. ما هو رقم الضمان الاجتماعي والصحي؟ كنت قادرًا على الردّ عن سؤال واحد، اسمي! لكن، يا لها من كارثة، أنا في عداد الأموات! تمّ تسجيلي في قائمة المفقودين منذ 40 عامًا. حضر رئيس المستشفى غير مصدّق للحالة الأعجوبة التي وجدها أمامه. أقسمت أمامه بأنني الرجل المعنيّ ولا توجد ضرورة لإخفاء وجودي فأنا لا أعاني من فوبيا البقاء! 

 

أخبروني بأنني قد بلغت من العمر 70 عامًا، لكني لا أذكر سوى السنوات الثلاثين من حياتي. شعرت بأنني مميّز، كنت أبتسم حين أقارن بين هيئتي والآخرين من أترابي. لكن هاجس الوحدة بدأ يطرق أبوابي. لم أكن قد تعرفت إلى التقنيات الحديثة، شعرت بأنني قزم أمام شاشات التلفزة والأنوار التي تضيء الشوارع المحلات التجارية ودور عروض السينما والمقاهي وما إلى ذلك. لكن الوحدة بالرغم من كلّ هذه الضوضاء وجدتْ طريقها إلى أيامي وأمسياتي. حتى النساء اللواتي أخذت يتسللن إلى سريري لم يتمكنّ من تخليصي وتحريري من جمهرة المشاعر الوافدة من عمق التاريخ.

 

أخذت الذاكرة تلحّ عليّ، كان لا بدّ من استحضار لحظات حميمة بقيت تلاحقني. "هي" دون نساء الدنيا وحدها، طيفها، رائحتها، حضورها، انطلاق ابتسامتها من عقالها دون تملّق. يا أنتِ، يا ذاكرتي المكلومة كيف خنتِ نهاري ورميتِ بي على بعد أربعة عقود من الزمن وحيدًا دون رفيق. أنا لا أنتمي لهذا الشاب الذي تسلل في جسدي، هذه ليست حياتي، أنا رجلّ سبعينيّ غير قادر على الوصول لرفاقي "وهي" تلاحقني، تناديني، تبحث عنّي، تتحسّس كلّ الطرق المسدودة نحوي. إنها زوجتي التي اختزلت في هذه اللحظة كلّ نساء الدنيا.

 

تمثلت ساميا أمام ناظري حاجبة قوافل النساء من شتى الجنسيات والأعمار. لم أجرؤ على طرح سؤال واحد: هل ما تزال ساميا على قيد الحياة؟ كيف تبدو زوجتي إذا كتب لها البقاء حتى الآن؟ أريدها "هي" دون نساء الدنيا، وليذهب شبابي إلى الجحيم!

 

وجدتُ الطريق لوحدي إلى هناك، كيف يمكنني أن أتوه عن بيتي الذي أمضيت أجمل لحظات العمر في أنحائه. كان المنزل خاويًا، مهجورًا، غارقًا في غابة من الأعشاب والشجيرات الطفيلية كأن قدم إنسان لم تطأه منذ زمن بعيد. أزحت من طريقي ما علق من أغصان وقحة ودلفت إلى الداخل. كانت صورتي ما تزال معلقة على الجدار في صدر صالة الاستقبال. لا يا ساميا .. هل فعلتيها وفنيت يا أجمل نساء الدنيا! هذا كثير، يكفيني فقدي لأربعة عقود بعيدًا عن طيفك، لم أتمكن في غيبوبتي الغبية تلك تلمس الطريق لجدائل شعرك. كان بودّي أن ألقي التحية عليك مرة أخرى، أن أقبّل ثغرك، أتحسس بشرة وجهك، شعرك الأسود الغامق كما الليل، كما العتمة. يا لهذا الفراغ الذي ملأ فضاءات روحي الداخلية! كأن يدًا عملاقة امتدت من الأبدية وهزّتني، هزّتني حتى غبتُ عن الوعي ثانية، لكن هذه المرة غبت لثوان قليلة فقط. واجهتُ مرآتها المعلقة في غرفة النوم المهجورة الباردة كما القبر. كأنني رأيت للحظة انعكاس ابتسامتها، تيار كهربائي مرّ في أنحاء جسدي، هزّني، نفض عني غبار الزمن المهدور في غباء الحدث وسخرية المصادفات العابثة.

 

أنتِ يا غائبة، يا حاضرة في تلافيف الذاكرة المعطوبة. ما كلّ هذه الدموع يا فتى! إنها تليق برجل سبعينيٍّ وليس بشاب لا يتجاوز عمره ثلاثين عامًا. لكني أنا الاثنان في واحد، أنا العجوز الذي يبحث عن نصفه الآخر، بل ثلثيه، بل كلّه حتى وإن بدت عجوزًا شاحبة الوجه. أتحداك يا موت، أحضرها من غيابها، امتحن قدرتي على الوفاء والعشق ودلق المشاعر عند حافة الفراق واللقاء المؤجل. ليتني أقدر على إطفاء الحريق الذي تركته دموعي المسفوحة في حضرة العشق المتمرد أبدًا. أحبك كما لم أفعل منذ أربعين عامًا. لم أعد أشتكي من فوبيا البقاء، تعال يا فناء، غيِّبْني، ضعْني إلى جوارها حيث ترقد مادة ذراعيها نحوي، أنا الغبي المنطلق نحو أضوائها. أتماهى الليلة مع فوبيا البقاء، أردد اسمك، أنا الرجل السبعينيّ الثلاثينيّ، فلا تردّني من فضلك يا صاحب السمو -  الموت، خذني إليها على أجنحة الأمل قبل اكتمال البدر بلحظة.          

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 2

.

25-03-2011 08:1

خيري حمدان

الأديبة العزيزة سوزان

شكراً لهذا التحليل

لك حضور بنكهة الياسمين - مودتي دائما


.

24-03-2011 12:3

سوزان

قراءة منمّقة في دفاتر ذاكرة معطوبة

ربط مؤثّر بين اليقظة والحلم، بين الواقع والخيال، جعل من القطعة الأدبية صفحة مسطّحة للقراءة تغري بعد كلّ سطر بالغوص فيها أكثر لاستكشاف خفايا السنوات الضائعة لتصل النهاية وتنهي التساؤلات.

جميلة جداً في حبكة أجمل.


 

   
 

.