3

:: المومياء لا تحتج ::

   
 

التاريخ : 08/04/2011

الكاتب : خيري حمدان   عدد القراءات : 1202

 


 

 

كانوا قد نصحوني قبل ألف عام تقريبًا أن أستمع للكلام الرزين العاقل الذي يتفوه به العقلاء. اشترطوا كذلك بأن أبقي لساني منضبطًا في فمي، وفتحه لتناول الطعام والشراب فقط، لم تكن البلاد آنذاك تعرف أطباء الأسنان، لم تكن هناك حاجة لفتح فمي أمام الطبيب. قالوا لي بأنه من الأفضل ربط سنّي المصابة بالسوس بخيط وشدّه حتى ينخلع من جذوره. تمكنوا بالطبع من خلع أسناننا، فوتوا علينا فرصة شتم أطباء الأسنان بعد دفع الفواتير الدسمة المترتبة على العلاج والدواء. نصحوني بكسر قلمي حتى أشعر بوخز طرفه الآخر في نهاية إصبعي لأعرف معنى الكلمة وأبعادها الفلسفية والمعنوية. قالوا لي بأنه من الأفضل عدم التعليق على أقوال جميع الذين يكبروني عمرًا، خاصة أصحاب السلطة والجاه والمخترة على كافة أشكالها. الآن، حين قررت الاعتراض وجدت بأن لساني قد انبرى وجفّ. بقيت الكلمة عالقة في جوفي غير قادرة على الخروج نحو الفضاء. كنت قد فقدت القدرة على الاعتراض والتعبير عن مشاعر الحنق والغضب والحبّ. أسناني كذلك لم تعد حادّة، غير قادرة على العضّ وتمزيق اللحوم، لم تعد مخارج الكلمات والحروف سليمة! حين رغبت بالصراخ وجدتني أبتسم وأمامي يقف جلادي، يضحك، يلوح بسوطه، يستهزئ، يرغي ويزبد. أما أنا فكنت محنّطًا كما المومياء في قبرها الفرعوني. أخبَروني بأن المومياء لا تغضب حتى وإن أطلقوا الرصاص في وجهها، حتى وإن لوّحوا بالسياط الجلدية الرطبة المالحة في وجهها، ثمّ قذفوا بها فوق جلود مومياء الجماهير الصامتة بصخب. سمعت صوت المومياء تتأوّه في اليمن، لكن بحكم النصائح التي تلقيتها، وبحكم انتمائي لأمّة فضلت الصمت طوال فترة القمع حتى نسيت بأنه بات من الضروري أن تسعى للهجرة إلى منفىً ما في الصحارى، لتنسى حقبة الخنوع والخوف. لكن حتى يحين ذاك الوقت سأصمت داعيًا الله أن يشلّ يد الحيوان المفترس في هيئة إنسان، رجل الأمن اليمني السوري الليبي العربي، العربي، العربي الذي لا يعرف قلبه رحمة! سمعت أصوات المومياء تتأوه في ذاتي، كان السوط يهبط، يصعد فوق ظهري حاقدًا، آكلاً من لحمي، لا لسبب ما غير مفهوم سوى قدرتي على التفكير، ورغبتي بالانعتاق من سوء الطالع والتخلف والأمية، والتخلص من وهم الحرية المجانية المقدمة طواعية على متن مقاتلات الناتو الحربية! أنا اليوم غير الأنا ذاتها التي عرفتها قبل ألف عامٍ، إذا كانت هذه الوضعية مقلقة لحضورك في يومياتي الجديدة، التي انقطع تدويلها وتحبيرها منذ ألف عامٍ، فلا تقبليني فحلاً في سريرك الليلة وليلة الغد وما بعد غد. لا تقبلي بأحفادٍ جبناء عاقين غير قادرين على التنفس بملء الرئتين كلما اشتعل فتيل الشمس في كبد سماء المتوسط. لينقطع نسلي إلى أبد الآبدين، إذا بقيت يدي مكبلة بأغلال الماضي والرهبة من ظلّ الحكم المستبدّ القبيح في انعكاس مرايا العذارى المغتصبات عند قارعة الطريق. اغتصبهنّ حارس الكرم الذي أوكلناه بشرفنا وثروات جغرافيتنا الممسوحة من على خارطة الطرق المقطوعة برصاص الصديق، ابن البلدة، حبيب أمّه المغمضة العينين، غريم الثكلى التي فقدت ابنها في سجون الوطن الحبيب لأنه حاول أن يكون ذاته فقط. رفض أن يقتطع من لحم صدره وثدي أخته لحارس الكرم الجائع دومًا لمزيد من البؤس في الأنحاء. كانوا قد نصحوني قبل ألف عامٍ أن أصمت وأن أبقى مومياء. لكنها المومياء استيقظت في ذاتي في الوقت الضائع، قلبت الطاولة الممدودة في غرفة العمليات وبدا بأن السحر سينقلب كما الطاولة على الساحر. فسَحَرْنا وسُحِرْنا ومات حارس الكرم مهمومًا قبل أن يدلق ما تبقى من النبيذ في جوفه!   

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.