3

:: "سعيد عقل وأنا... رحلةُ عُمُر" ::

   
 

التاريخ : 16/07/2011

الكاتب : د. منيف موسى   عدد القراءات : 7208

 


 

 بريشة الرسام سمير تابت

... وعفوًا من العنوان، فإذا كانت ["الأنا" كريهةً] (Le moi est haïssable)، فهي ههنا تفرِضُ نفسَها على تاريخ عُمُر ومراحل حياة: في علائقها الوجدانيّة والأدبيّة والوطنيّة والأكاديميّة. ذاك أنَّ ما بين سعيد عقل وبيني من وشائج طيّبة ترقى إلى نحوٍ من خمسين سنة تُلِحُّ عليَّ، السّاعةَ، في قَبْسِ سوانحَ حميمةٍ أُعاين فيها-  فكريًّا ونفسيًّا-  استرجاعَ زَمَنٍ. منذُ عهديَ الأوّل، زمنِ الفتوّة وعهدِ اليفاع، يومَ أَخذتُ أتعلَّقُ بالكلمة وأنتشي بالبيان وأطرب للشِّعْر، وأضمِّخ أصابعي بمدادِ المعرفة وإشراق الأدب.. فألفيتُني أستفيق ذات يوم على صُداح كوكبةٍ من شُعرائنا الأفذاذ، وقيدومُهم سعيد عقل وقد غدا "الثُّريَّا" في سماءِ الشِّعْر العربيِّ الحديث والمعاصر قائلاً، وهو في التسعين-  مدّ الله بعمره:"أشاعرٌ أنْتَ لم يَنْبُهْ؟/ألا ارنُ إلى/لِعْباتِ شِعْري التي أسْكنتُها القِمَما.../ أنا/إذا لفظةٌ حَطَّتْ على قلمي/فاسْمعْ بها/عنه طارتْ/بُلبُلاً رُنُما....." [ديوانه: شَرَر، منشورات جامعة سيدة اللويزة، ط 1، 2000، ص 99]

وفي زمن الطَلَب الإعدادي، ومن خلالِ كتاب الأدب العربيّ الذي كنتُ أدرس فيه- آنذاك- حفظتُ مقاطع من مسرحيّة سعيد عقل "بنت يفتاح". وقد سمعني- ذات يوم- أحد أبناء بلدتي أردّد تلك المقاطع، وكان من الأصدقاء القوميّين السوريّين المتشدّدين في عقيدتهم، فقال لي، هذه مقاطع من مسرحية "بنت يفتاح" التي نقدها الزعيم أنطون سعادة مثلما نقد مسرحيَّة "قدموس"، فكان أنْ زادني هذا القول إقبالاً على أدب سعيد عقل وشعره، فقرأتُه كلَّه، وقُمتُ فيما بعد بدراسات أكاديميّة عنه، وقد تناولتْ تلك الدراسات موضوعات شتّى في شعر شاعرنا، وفي نظريّته الشِّعْريَّة والنقديَّة. حتّى قُلْتُ فيه يوم عيد ميلاده التِّسعين: "سعيد عقل، ستبقى وَهَجَ الشِّعْر العربيّ المعاصر".

ساحرَ كلمة

وتقدَّمتْ بيَ السُّنون، وأنا في رحلتي الأدبيَّة مع سعيد عقل: ساحرَ كلمة ومجوسيَّ جمال. فقلت فيه في أحد مؤتمرات الشّعْر العربيِّ: "كلُّ شعراء العرب المعاصرين هُمْ تلاميذ سعيد عقل". وردًّا على سؤال مجلة "الشّراع" اللبنانيّة وقد أجرت تحقيقًا عن أعلام القرن العشرين الأوائل في مختلف الفنون وفي الشّعر، صباحَ حلول القرن الحادي والعشرين، قلت: "سعيد عقل هو شاعر القرن العشرين" عند العرب... وجَماع قولي فيه: تقرأه، فتسمعُ صدى رنين قَرْعِ أكْؤُس الذهب بأعمدة الشِّعْر المنحوتة كما المَرْمر في قلاع صيدون. فتهفو إليكَ بعلبكُّ، تمدُّ يدَها لتمسح أنْمُلَها بماء من زرقة بحرنا، وتعرّجُ لتوقظ الفجرَ فوقَ حرمون.

تعلَّقْتُ بهذا الشاعر العَجَب. ثُمَّ التقيتُهُ، وامتدَّت صداقتنا حتى اليوم. وزارني غيرَ مرّةٍ في منزلي في بلدتي "الميّة وميّة"، وشَدَّ ما رَحّبَ به والدايَ، ولا سيما والدتي. فبات هذا الشاعرُ واحدًا مِنَّا.

مَرَّةً، كتب جوزف صايغ الشاعر، والدكتور والصديق، فيما بعد، كلمةً في زاوية عنوانها: "سوف ترى" في ملحق جريدة "النهار"، يوم الأحد 22 آب السنة 1965، العدد 9111، تحت عنوان: "هذا الرَّجل للصَّلْب"، إنّه سعيد عقل. قال. وقال أيضًا في كلمته: "... لقد اعتدى على التاريخ من أجل هَوَسِه "بلبنان". قَصَدَهُ في عقر داره. سبى عظماءَه. زوَّر هُوِيّاتهم. ألحقَ بنا أمجادًا ليست فينا... وقال: "... لبنان إنْ حكى... [وهو كتاب لسعيد عقل] قال كلَّ ما ليس صحيحًا. لأنّ الحقيقةَ تميتُنا".

وقال: "إنقاذ لبنان بالوَهْم: هذه هي عبقريَّةُ هذا العبقريّ. وقف جميع مؤلَّفاته على "لبنان". أمرَضَ به التَّلامذة. صنع منه تركيبة عجيبة من قوى روحيّة كنزت إرثَ حواضر المعرفة في الأرض.  "رسالة نُوْر إلى العالم، فيما وجودنا تجديف على النُّور.  "عمالقَةً، زَعَمَنا، وهو أدرى بأنّنا بعد أقزام. "كابر على الغرب، كابر على الدُّنيا، حتَّى بلغ به الجنون أنّه جاهر باعتزامه لَبْنَنَةَ العَالَم!!... وقال: "... نطالب بصلبه فعلاً لأنَّنا به نصلُبُ "لبنان" الوهم. "لبنان" كما يتوهَّمه الواهمون.." [مقاطع من كلمة جوزف صايغ[

وصبيحَة 23 آب 1965 كتبتُ ردًّا على جوزف صايغ، في كلمته "هذا الرَّجل للصلب". وأرسلتُها إلى ملحق جريدة "النهار" الذي جاء فيه في الأسبوع التالي ما يأتي: "إلى منيف موسى-  الميّة وميّة-  ردُّك على جوزف صايغ لن ننشرَه لك، الأسباب نشرحها بحضورك".

وحضرتُ إلى مكاتب "الملحق" في جريدة "النَّهار" آنذاك؛ والتقيتُ أحد المسؤولين، وتحاورنا في الأمر، وقد نتج من الحوار "عدم نشر ردِّي". ومما قلتُه في كلمتي التي فنَّدت فيها رأيي: "... ويوم انطلقت أشرعة الفكر، من صيدون، ومن صور، ومن جبيل حاملةً إلى المعمور ناشري الحضارة، تَرَكَتْ في كلِّ بقعة حلَّت فيها مُعلِّمًا لبنانيًّا. فكانت الشعوبُ أحفادَنا في العِلْم والمعرفة..."

 

 

لقاء في "المعرض"

وذات يوم، منذ أربع وأربعين سنة، [وكان ذلك في أواخر العام 1965] وقفتُ أمام سعيد عقل وقد تلاقينا في شارع المعرض، في بيروت، فقدّمتُ إليه ديوانيَ الأوّل "لُنَى" (وهو من شِعْر الصِّبا)، فكان أنْ طالعني سعيد عقل، بعد عدّة أيّام، في جريدة "لسان الحال" التي كان يكتب فيها زاويته "كلمات"، بقوله: "قرأنا مجموعة "لُنَى" لمنيف موسى. ولا كلمة نابية. هذا ألا يكفي، في هذا العصر، ليكون صاحب النِّتاج على طريق الشَّاعريّة؟ وأحيانًا إطلالات بناء، ونغم حلو، وطرافة. ما أجمل أن ترى فرخ النَّسر يتدرّب على تحريك الجناح... ".

ويومَ استضفناه، محاضرًا، عندنا، في الميّة وميّة، بتاريخ 26 آب من العام 1967، في محاضرته: "ما أُضْمرُهُ للبنان"، وبحضور محافظ الجنوب-  آنذاك-  الأستاذ هنري لحّود، الذي قدَّمه وعرّف به، قلتُ: "كالسَّيف في عنجر، ما لان له نَصْل، وما نبا له شفار، مايني يُلقّننا حُبَّ لبنان والولاء له رسالةَ وَعْي وحضارة إلى الأُمم، نزرعها على كلّ شبر من الدُّنيا... وبصفته "دولة لبنان الروحيّة" ما زال يعمل منذ عهد بعيد من أجل لبنان، وكيان لبنان، وشعب لبنان. رجل إيمان هو. القضيّة عنده فعل وجود ومصير... سعيد عقل أنت الزُّرقة الباقية في سماء لبنان".

يومذاك، حَضَرَ المحاضرة آلاف الناس، من الميّة وميّة والجوار، ما أذهل سعيد عقل والمحافظ لَحّود، حتى قال ليَ سعيد: "من أين أتيت بكلّ هذه الجماهير؟"

وفي العام 1970 ضوَّأ سعيد عقل أمسيَّة شعريّة له في ثانوية صيدا الرسميّة للبنين-  وكانت الثانوية الرسميّة الوحيدة في المنطقة-  كانت أمسيّة مشتعلة بالفتوّة والصِّبا-  حيث كان الشباب والصبايا-  يردِّدون مع الشاعر بعض قصائده، وقد وَرَدَ حديث عذب عن تلك الأمسيَّة في كتاب جان دورتال: [Saïd AKL, un grand poète libanais] N.E.L. Paris, 1970, p.p. 173-  174"، وكنتُ حاضرًا تلك الأمسيَّة. وفيها أيضًا تحدّث سعيد عقل عن محاولته كتابة اللغة بالحرف اللاتينيِّ الذي ابتكره لمحاولته، واحتدم الجدل في ذلك اليوم حول هذه القضيّة. وأذكر أنّ سعيدًا كان قد كتب كلمات-  على اللوح الأخضر-  بالحرف العربيّ، وصاح بالحاضرين-  ليدعّم وجهة نظره، وكانت الكلمات غير مضبوطة بالشَّكل قائلاً: "مَنْ يجرؤ منكم على قراءة هذه الكلمات"، وأظن أنّ الكلمات كانت: درج، درس... صَمَتَ الحضور، فَصُحْتُ حرِّكْها يا أستاذ. فأقرأَها.. ساعتئذٍ صَفَقَ سعيد عقل كفًا بكفّ وقال: "هادا حكي! وهنا المشكلة!" لذا علينا أن نكتب كما نلفظ... (وللقضيّة مشكلاتها وحسناتها وسيّئاتها). ولا مكان للبحث فيها في مداخلتنا.

وحَدَث أنْ وقعت الحرب/الفتنة في لبنان يوم 13 نيسان السنة 1975، فانقطع لقائي بسعيد عقل لمدة غير قصيرة. وكنّا نلتقي عنده، في منزله في بيروت، أو في زحلة، أو عندي في الميّة وميّة. ثم كان أنْ أرسلتُ إليه في العام 1977 قصيدتي الطَّويلة "مواسم الحُبّ والموت" (نشرتها جمعيّة الثّقافة في الميّة وميّة) فأرسل إليّ ورقة فيها قوله: "حقًّا إنَّها لَمواسم. وسُنْبُلها الحُبّ. أمَّا الموت فمُقْحَمٌ فيها إقحامًا؛ قَصْدَ أنْ يقول الحياة. كيف لا تُحَبّ؟ إنّها لبنان داسَ الاحتضار، رفع الوجع إلى قوّة الجمال، غنَّى، وضَفَر على جبينه بدلاً من إكليل مجد، خضرةً من جبله العالي-  منذ اليوم الأرز في الدنيا مكان الغار. سَلِمَت ريشةٌ تكتب بالسَّيْف!"

شاعر عجب

وكان أن غدا هذا الرَّجل شاعرًا عَجَبًا، ففكَّ رَصدَ الإيقاع الموسيقيّ، وجعله جُمَلاً موسيقيّة توازي العَروْض الكلاسيكيَّة فكان كبير الماهدين في حركة الحداثة العربيّة، على صعيد الشِّعْر. وكانت قصيدته "شيراز" [كتبها يوم 9/5/1938 ونشرتها جريدة المكشوف يوم 6/آذار/1939] تسجيلاً لبداية عهد حداثة القصيدة العربيّة بمفهومها الأكاديميّ النقديّ-  اليوم-  وقد ائتساها صلاح الأسير بقصيدته "نَهوند"، [راجع ديوانه "الواحة"، ص 82-  85، منشورات "الأديب"-  بيروت، 1943] روحًا وبناءً. ثم تتالت المحاولات مع نخبة من الشّعراء المعاصرين، حيث أرسَوا مداميك قصيدة "الشِّعْر الحرّ"، وكأنَّ سعيد عقل يوم صاح ذات صباح من العام 1933 بتوفيق يوسف عوّاد: "بتحبّ تسمع قصيدي قَدْ الله" كان يعتمل في نفسه مِرْجلُ: "ما بقيتُ البَدْعُ مرمايا" ["شرر"، ص 24].

هذا الشاعر الذي أصبح مَعْلَمَ الشِّعْر العربيّ المعاصر، في كلّ عنجهيَّته الوطنيَّة وعنفوانه الشِّعريِّ والفكريّ وتطلّعاته من أجل بناء وطن/أنموذج، يأتي بوثيقة تُعدُّ برنامجَ عملٍ وبناء، هي "مشكلة النخبة في الشرق"، [محاضرة ألقاها في الجامعة الأميركيّة في بيروت يوم 13 كانون الثاني 1954، وأعادها في الكتائب اللبنانية-  بيروت يوم 18 آذار 1954 (منشورات دار الكشاف، بيروت-  ط1، 1954) ونشرها معدّلة في المجلد الثاني من أعماله: شعره والنثر. بعنوان "غد النخبة"، (منشورات نوبليس، بيروت، 1991)، ليرفدها فيما بعد، ببيانه: "الوثيقة التّبادعيّة" وهي رؤيا عن الله والكون، نظام سياسيّ، فنّ حياة [المجلد السادس، من أعماله، شعره والنثر، منشورات نوبليس-  بيروت، 1991].

غير أنّ مقدمة مسرحيّته "قدموس" (وُضعت في ضهور الشوير، آب 1937، وأُعيد النظر فيها في زحلة آذار 1944، ونيسان 1960، وتاريخ تدوين المقدمة هو 1944) وقد عَنْونها صاحبها: "خلاصة لبنانية"، تُعَدُّ دستور أمّة. وممَّا جاء فيها: "لبنان وطن للحقيقة، هكذا شاء أن يكون. هكذا فَلْيُعْلن، عهدَ تضجُّ خريطة العالم بانهماكَيْن من أجل أحداث التاريخ: اكتناه العقل، والتَّوغل في ماهيَّة المادّة".. إلى أنْ يقول: "... لا يتنازل لبنان عن رعاية العقل، وعلَّة وجوده الوحيدة أنّه عقل، ولا يستجيز لنفسه أنْ يُبغض، وأجمل ما في تراثه أَنَّه حُبٌّ. ولا يقبل لبنان بأنْ ينكفئ على ذاته. واتجاه فعله هو انفتاح على العَالَم وما فوق العَالَم." [لم يُدْرج المقدمة هذه في مجموعة أعماله: شعره والنثر].

في نظريّته الشّعريّة والنقديّة

وإذ يشدُّني الحديث، هنا، على سعيد عقل شاعرًا، فأراني مُعَرِّجًا على الحديث عن سعيد عقل في نظريّته الشّعريّة والنقديّة، وهو على ما ينماز به من دور جليل باهر ساطع في تحديث الشّعْر العربيّ وأخذه في دروب المعاصرة عَبْر شعره ونثره وتبادعه، أسجِّلُ له المعالم الآتية:

1- محاضرتُه: "كيف أفهم الشِّعْر؟" (1937) التي أصبحت فيما بعد مقدمةً لقصيدته الطويلة "المجدليَّة" وقد عَنْوَنَها "في الشِّعْر"، وهي عندي البيانُ الشّعْريُّ الرمزيُّ للشِّعْر العربيّ الحديث.

2- محاضراته التي كان يُلقيها في "معهد الحكمة"-  في بيروت-  العام 1937، على غرار ما عمله "الكوليج دي فرانس" مع ول ڤاليري في رعاية الشِّعْر، العام 1937، وكانت محاضرات سعيد عقل، عندنا، تتناول البحث في الشِّعْر العربيِّ في ضوء "الشِّعْر الصافي".

3- مقدِّمته لديوان "أوَّل الرَّبيع" لرشدي المعلوف (8 نوَّار 1944) وقد تحدّث فيها عن دور لبنان في تطويع البيت الشِّعْريِّ العربيِّ، فقال: "بيتٌ عربيٌّ-  أيْ بيت الشِّعْر-  هُوَ لنا... تسلّمناه على حال رفيع وارتقينا به إلى أوج أرفع، ولكنَّه أوج من صلبه، فهو هو نفسه ولكنَّه تعالى هذه المرَّة. بيت عربيٌّ أخيرًا نظمناه في سلك، فراح، لأوَّل مرَّة في تاريخه، يكون نغمة في سمفونيا... وهكذا جاءت قصائدنا عمارات لا خيمات...".

4- مقدِّمته لديوان "شِعْر الأخطل الصَّغير"، ذات العنوان: "أغنيَّة الجراح والرِّماح" (تاريخ تدوينها، زحلة 20 نوَّار 1961)، وممَّا جاء فيها: "... شخصيًّا أحببتُهُ (أيْ الأخطل الصَّغير) ما كففْتُ. رغم ما تقوَّلُوه حول خطبة لفظتها ذات ليلة ونحن على المنبر الواحد، خَضَضْتُ بها الشِّعْر: قديمه والمعاصر، فزعموني تعمدْتُها أذيَّة له، وفهمها هو هكذا بضغط من الجمهور، حتَّى إذا ردُّوه إلى الكلام كَرَّةً أخرى وهاجمني ببَيْتيْن له قديمَيْن، رُحْتُ أصفِّق لهما كما ولا أحد، وفي باليَ الخليِّ أنَّنا: هو والبيتَيْن وأنا، أعداء حقًّا ولكنْ أعداء مَنْ يجهلون، وانقضى عمر. وهذا نحن نكذِّبُ الليلة المباعِدَة؛ أنا أدعو إلى تكريمه وهو يكلّفني التقديم لديوانه".

5- مقالته: "القصيدة الحديثة" (نشرتها مجلة الحكمة-  العهد الأوَّل-  العام 1963) وهي عندي المقالة/البيان، أو تجربة سعيد عقل الشِّعْريَّة. وقد سكب فيها بعضًا من عبقريَّته المتطلعة دومًا إلى اجتراح القصيدة/المعجزة. وهو إذ ذاك، في ميعة الصِّبا، وقد راح يكابد الشِّعْر الصَّعب، إذ لم يُرْضِهِ-  عهد صباه-  شِعْرٌ ككلِّ أشعار أقرانه أو أترابه، أو مَنْ قَبْلَهم، حتَّى قال: "... عزمتُ على بناء نفسي، وكان عملي من الصَّراحة والكدح وهدم ما لا يعجبك ممَّا تبني، ثُمَّ استئناف الرَّصف من جديد... حتَّى خِلْتُني ورشَ معماريِّين تقلق بطقطقات الأزاميل وكبِّ أحمال الحجارة وصَخَب تبادل النداوات. وهكذا، في تلك السِّنِّ، سنِّ الشَّباب واللَّهو، رحْتُ أنا أقوم بعمل ترصِّن متشدِّد وبدل أنْ أعيش ما أُعطاه عفوًا أخذت أحيا ما يمتنع عليَّ..."

وفي نهاية المقالة يضيف سعيد عقل، وقد سَمِعَ القصيدة/المرأة، تهتف به: "... حبيبي، يا أصابع إله صغير، إنّ في مطاوي عقلك لَمثلاً مُصغَّرًا عن قوَّة الذي براك على صورته ومثاله. حسبك أنْ توقظ ذاك بأنْ تكون أنتَ أكثر ما يمكن أنتَ، بأنْ تُغني غناك البشريَّ، بأنْ تُفتِّق من نفسك زهور نفسك، ليتأتَّى لك العجب ويحكي صنيعك صنيعَ الخالق العظيم...".

وهكذا كان، وغدا سعيد عقل شاعرًا عملاقًا. ويكبر تراثه وتتألَّق عماراته وتلألأ. ويصبح الرجلُ هذا، كما لا شاعر، شاعرًا أسطوريًّا. وقد قبسْنا من أدبه وشعْره وفكره، مجموع تعاليمَ وأفكارٍ وقِيَمٍ، وهو اليوم على عَتَبة عامه المئة، نُهدي باقة ورد وأرز وغار من أرض لبنان، إلى "دولة لبنان الروحيّة"، متّعها الله بالسِّيادة والحريّة والاستقلال، على شموخ ورفعة، وصحّة في العقل والجسم.

ويا سعيد عقل، ستبقى وَهَجَ الشِّعْرِ العربيِّ المعاصر.

 

·       نص مجتزأ من كتاب "قراءات في الأدب والنقد واللغة"، سلسلة "الذاكرة اللبنانية"، منشورات الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا

كلام الصورة

مع سعيد عقل في وادي العرايش-زحله، 1966 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.