3

:: نصف قرن على غياب فؤاد حدّاد: لبنان مساحة روحيّة وأرض حياة ::

   
 

التاريخ : 27/09/2011

الكاتب : جوزف أبي ضاهر   عدد القراءات : 1986

 


 

 

«لبنان لم يتغيّر من حيث هو مساحة روحيّة (...) وجزية الدّم التي دُفعت ستوطد لبنان».

... ودفع فؤاد حدّاد (أبو الحنّ) دَمَه فدية. وكان طليعة الشهداء من أجل الحريّة، من أجل الوطن، من أجل حياة تستحق أن نحبّها ونتمسّك بها «مهما تألبت قوى الشرّ، ومهما طغت، ومهما بلغ من إعيائنا، ومهما تضخّم شعورنا بجراح تسخننا وبدماء تستنزف منّا ـ سنكتفي من الحياة برمق لكي لا نبغض الحياة، ولكي نُدرك أن في مقدورنا أن نحبّ الحياة حبًّا يكفيها على ما نريد، وعلى ما نشاء».

***

منذ نصف قرن وثلاث سنوات، وفي التاسع عشر من أيلول الحصاد، جَزَّ منجل حقد صوت عصفور فوق سنبلة. خسرت البيادر حبّة بركة، كانت زادًا لنفوس ربيت على خبز عُجن بخميرة الفكر، لا الكفر.

خَطَف قاتلٌ معلوم ـ مجهول (!) فؤاد حدّاد ظهر يوم الجمعة، وهو في رجعته من دائرة الفنون والثقافة، في وزارة كانت مخصّصة للتربية.

خطفه القاتل المعلوم ـ المجهول بأمر من سيده، لإرضاء رغبةٍ من سيد سيده، فلا يعود صوته من صوت لبنان، يقضّ مضاجع الحالمين بالسيطرة على عالم عربي يضع رأسه في الرمل، وإذا رفعه فليقول عاش الزعيم، وليصفّق بضرب رأسه برأس «رفيق» له، بعدما قطعت الأوصال التي تتحرك.

ـ ما ذنب فؤاد حدّاد؟

وهل الذين يُقتلون اليوم، ويُذبحون، ويُنكّل بهم، أذنبوا بانتمائهم إلى وطن وطائفة وقوم؟

ما أشبه اليوم بالبارحة. لم يتغير شيء، ولائحة الشهداء ما عادت تسع.

«الغول» لا يشبع. خرج من الحكاية ليأكل الطفل النائم في «حضن جدته».

***

فؤاد حدّاد، قلم من ذهب ونار. انتمى إلى كل كلمة كتبها، وقالها من غير خوف. لم ترهبه النتائج، ولم تثنه غاية عن هدف.

سَخِرَ، تهكّم، انتقد، فضح من جَبِنَ وتخاذل، ومن باع نفسه للشيطان، وكانت كلماته «نقدات» عصفور منمّم المنقاد، يُدمي حين يقع على جرح، ويصير النغم الحنون حين تداعبه ريح.

لم يقبل بالأمر الواقع، ولم يساوم على قضيته، وقضيته كانت لبنان «الإنسان الموفور الكرامة».

ناضل من أجله، كتب، حاضر، حدّد معالمه، رسم ملامح إنسانه، وأظهر حضارته، وقيمه، وسلّط الضوء على تاريخه:

«... لبنان لم يتغيّر ـ من حيث هو مساحة روحيّة، وبيئة جغرافية لها إنسانها، بالطبع تغيّر تخطيطه وشكله السياسي فشكل دولا ساحلية، ثم تكدّس في منطقة إدارية، وتوسع وتقلص، وتقسّم وتقطّع ـ لكن مساحته الروحية بقيت على مداها (...) حيث يتشبث الإنسان، برغم كل قواهر الحياة، بمواقف معنوية، يريد أن ينتزع لها تعبيرًا في وجوده، من دون أن يهتم بتسميتها قيمًا.

هذا التشبّث العنيد هو هو مدار التاريخ اللبناني. (...) وليس هو الكيان اللبناني ما كوّنته الألوف الستة من السنين، الزاخرة بالأحداث. بل هو الإنسان اللبناني ـ هو الضمير اللبناني».

***

ولد فؤاد حدّاد بعد سنة من بدء الحرب العالمية الأولى في بلدة الباروك (قضاء الشوف). لم يعرف والده الذي هاجر إلى البرازيل. ربي في كنف أمه حبّوبه حدّاد الأديبة التي كنّا ننتظر صوتها يطلع من راديو الشرق (إذاعة لبنان لاحقًا)، ليحدّث جمع الأطفال، ويروي لهم الحكايات الجميلة.

أسّست حبوبه حدّاد مجلة «الحياة الجديدة»، وكتبت «نفثات الأفكار»، و«دموع الفجر».

أحبها فؤاد، وعشق الحريّة، ولم يتزوج.

الحريّه عنده، ممارسة فعلية... وحياة.

«... الموجز في تعريف اللبناني، انه فَرد حر، غاية وجوده أن يمارس حريّته، أن يعيشها وأن يمتلىء من الحياة، ويقضي عمره ينتزع الحريّة، يستبقيها، يحافظ عليها، ومساعيه كلّها طوال مرحلة وجوده، منذ أن يبدأ بالتهام العلوم بسرعة، إلى أن يروح يتاجر بالعيّنيات التي انتزعها، وهو يغامر، أو يناضل، وهو يكدّس المال، وهو يحتال، وحتّى وهو يشرب العرق، وحتّى وهو ينتهر الغير بالرصاص. مساعيه كلها أن تتوفر له المقومات التي تسهل له ممارسة الحريّة».

***

درس فؤاد حدّاد في مدرسة القديس يوسف للآباء اليسوعيين (بيروت)، وفاز وهو في الصف الخامس بالجائزة الأول في مباراة اللغة العربية بين ثلاثمئة من تلامذة الصفوف الابتدائية.

عمل في إدارات حكوميّة: دار الكتب الوطنيّة، قلم المطبوعات في وزارة الأنباء (الإعلام لاحقًا)، ثم تسلّم مهام رئيس قسم الفنون الجميلة. وحالت مقالاته بحق سياسة رئيس الجمهورية الشيخ بشاره الخوري على صفحات «المكشوف» دون تعيينه ملحقًا ثقافيًا بالسفارة اللبنانية في البرازيل.

مارس الصحافة في أكثر من مجلّة وجريدة: البيرق، البشير، الحديث، الحكمة، وكان يكتب بتوقيعه، أو بتواقيع مستعارة مثل (د.د.)، أو (أبو الحن) ولم تكن تهمّه الشهرة بقدر ما تهمّه قيمة العطاء...

آخر جريدة خصّها بزخم نتاجه.. وعمره، كانت جريدة العمل لحزب الكتائب.

ولماذا العمل؟ سأله صديقه الأديب فؤاد كنعان. أجاب:

«لا يربطني بـ «العمل» التزام حزبي، صحيح، ولكن يربطنا معًا التزام الجوهر... وهو لبنان».

حاضر في الندوة اللبنانية، وفي مؤسسات ثقافيّة أخرى، واهتم بالفنون التشكيليّة منذ سنة 1945، وهو صاحب الفضل في إقامة المعارض الفنيّة اللبنانيّة.

شارك بشكل فاعل في تأسيس إذاعة «صوت لبنان»، مطلقًا «صوت الحريّة والكرامة» ودفع الثمن حياته.

***

بعد سنوات من غيابه، تحدّث فؤاد كنعان في احتفال عن رفيق العمر والكلمة. قال:

«كان في مختلف أدبه واحدًا. لا يُسفْ ولا يتهدّل، ولا ينزل، أو يتنازل عن مراقي الجودة. ولا يفرّط في خصائص الأصالة (...) كان نبرة متفرّدة، وحتّى في عبثه كان في نقاء القديسين».

***

في ذكرى غياب فؤاد حدّاد، اليوم، نرجع إلى بعض ما كتب، وكأنه كتب للحاضر، وربما لزمن سيأتي بعدنا.

في مقالة له عن سوريا، مؤرّخة في 11 تشرين الأول 1956، نقرأ:

«قلبنا على ولدنا سوريا ـ وقلب ولدنا على حجر! سوريا، مثل كل ولد مدلل، تستثقل أن يقلق أهلها ومحبوها عليها، وأما قلق لبنان فتعتبره تنكرًا لها!». (... ويوجّه كلامه للمسؤولين السوريين): «عملتم مصلحتكم ـ وكنتم أوفياء للصيت الذي يتمتّع به الشامي بالشطاره ـ نقول الشطارة، ولو اختلّت السجعة ـ ولكن، سيدي، لو تأخذون عنّا أيضًا بعض وزرائنا وبعض سياسيينا وبعض الغيارى الغرم بالغنم؟».

... وأما في شأننا الداخلي، فاستشرف ما وصلنا إليه:

«الصلحة الوطنيّة» التي تشغل بال الكثيرين، ويحملها الكثيرون مثل السلم بالعرض، لأن اللبنانيين يحبون أن يتزاعلوا أشد الزعل على أن يتصالحوا حالاً، لكي يبقوا بعد الصلحة متزاعلين... وهم يغضبون ثم يحردون، إذا لم تكن الصلحة سريعة وإذا كانت من النوع الذي ينفي الزعل...».

... وخلص إلى وصيّة:

«لن تقوم لوطن حياة، لن تقوم للبنان حياة، إلا إذا عرف أبناؤه أن يحبّوا... ويعيشوا. إن استعدانا للموت في سبيل لبنان، ليس ضمانة لحياة، وإنما حياة كل فرد منّا هي الضمانة، إذا عرفنا أن نعيش، وأن ننتج هذا الحبّ الذي يتغلّب على الكفر واليأس، وهو ما سيدفعنا إلى الحياة، إلى التملّي من الحياة».

... واستشهد فؤاد حدّاد، استشهد أبو الحنّ فداءً عن كلمة حرّة، عن صوت حرّ، عن شعب حرّ، عن وطن حرّ.

ـ هل من يذكر؟

 

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.