3

:: ألفراغ (1) ::

   
 

التاريخ : 07/12/2012

الكاتب : إيلي مارون خليل   عدد القراءات : 1841

 


 

 

       ألفراغ، بمعنًى ما، هو الخُلُوُّ من أيّ أمر. فَراغُ الرّأسِ؟ خُلوُّه ممّا يجب أن يكونَ فيه: الفكرُ، الذّكرياتُ، الأحلامُ، الطّموحُ، الأملُ، الرّجاءُ... فَراغُ القلبِ؟ خُلُوُّه ممّا يَعذُبُ أن يملأَه: الآخَر، أكان أهلاً: والدَين، أو شقيقًا، أو شقيقةً، أو نَسيبًا، أم كان صديقًا، أو زميلا، أو حبيبًا... فَراغُ العَينِ؟ خُلُوُّها من أيّ جَمالٍ: في الطّبيعةِ، في الحياةِ، في الآخَر، في الذّاتِ، أيِّ ذاتٍ...

       بهذا المَعنى، هل يُسمَحُ بأن يشعرَ الإنسانُ بهذا الفَراغِ!؟

       أيُّ إنسانٍ، يكونُ هذا "الإنسانُ"، ذَكَرًا كان، أم كان أُنْثى! أيُّ إنسانٍ يُمكِنُه أن يكونَ فارِغًا ممّا يُشكِّلُ وجودَه العاقِلَ، كينونتَه الوِجدانيّةَ، صَخَبَ نفسِه، صِراعَ رغائبِه!؟ أيُّ عُطْلٍ نفسيٍّ يكونُ يملأُه، أيّةُ هَشاشةٍ تُسيطرُ عليه، أيُّ هَباءٍ، أيّةُ غَباوة!!

       كيف يُمكِنُه، هذا "الإنسانُ"، أن يُفرِغَ ذاتَه ممّا يُكوِّنُها، ممّا يوجِبُ وجودَها، وجودَها الحقيقيَّ الممتلئَ نِعَمًا!؟ ألفِكرُ نعمةٌ تَقودُ إلى صَوابٍ ما، حياتيٍّ، اجتماعيٍّ، نفسيٍّ، غائيٍّ. لكلٍّ حياةٌ يجبُ أن تكونَ ممتلئةً بالمفيدِ المُثْري. ألذّكرياتُ، فرِحة أو حزينة، نعمةٌ. تبقى مفيدةً مُثرِيةً، تجاربَ وتَأمُّلاتٍ وعِبَرًا، اختيارًا لِنَمَطِ حياة.

       ألأحلامُ نعمةٌ ترى إلى البعيدِ الآهِلِ بالنّجاحِ، بالفرح... كلُّ نجاحٍ عَملٌ جَماعيٌّ، من وجهةٍ ما. وحدَه، المرءُ، ماذا يستطيع؟ ووحيدًا، لا يمكِنُ أن يفرحَ الإنسان. ألفرحُ مُشارَكةٌ مُشارِكة. ألفرحُ "عَدْوى" مستحَبّة.

       ألطُّموحُ نعمةٌ تنطلِقُ من داخلٍ نحو الآتي من الأيّام. يرى المرءُ نفسَه مُريدًا تحقيقَ ذاتِهِ. تلتزمُ الإرادةُ الطُّموحَ، فالفكرُ قائدٌ صائبُ الرّأيِ، وتلتزمُ الأحلامُ تَلوينَ الآتي، فالأحلامُ طاقةُ خَلْقٍ مستمرّ.

       ألأملُ نعمةٌ تهدفُ إلى حَتْميّةِ القدرةِ على تنفيذِ أحلامِنا وطموحاتِنا والرّغائب. ما يجعلُ الإنسانَ مغمورًا بالفرحِ، بنَشوةٍ كلّيّةِ الألَقِ المُثيرِ البَنّاءِ. كلُّ أملٍ إلى تَحَقُّق، شَرْطَ انبِثاقِه، حُرًّا، من نفسٍ "أمّارةٍ" بالارتقاء. 

       ألرّجاءُ نعمةٌ تؤمنُ بـ"الوصولِ". ألوصولُ السّليمُ، تَحقيقٌ للفِكرِ القادر، للأحلام الصّادقة، للطُّموحِ الصّاخِبِ، للأملِ المتفائل، للرّجاءِ الثّابتِ الأكيدِ.

       وفَراغُ القلب! لا أتصوّرُ، بل لا أجدُ إمكانيّةً مثل هذه، فكيف بالفرَضيّة! مَن قلبُه فارغٌ، كيف يعيش، كيف يبقى حيًّا!؟ مَن فرغَ قلبُه، بلا أحاسيسَ، كان، بلا عواطف، بلا أفراح، بلا أحزان، بلا مُعاناة، بلا أيّةِ معاناة. هذا، من لا معقوليّة الحياة. فارغُ القلبِ، أجوفُ الأعماقِ، يابسُ الأحلامِ، بَليدُ الذّهنِ، منطفئُ الرّؤى... فكيف تكونُ "معقوليّةُ" كَينونتِه!؟

       وفَراغُ العَين!؟ أن لا يرى الإنسانُ أيَّ جَمالٍ، أيّ خَيرٍ، أيَّ حقٍّ، أيَّ حُبٍّ... في أيّ كائنٍ، أيِّ مكان!... هذه، بدورها، من لا معقوليّةِ الحياة. إنّها مَرَضُ النّفسِ الذّابِلة. تعاسةُ الرّوحِ الّتي لا تُزهِرُ، لا تُثمِرُ، لا تنتعشُ، لا تُنعِشُ!

وعلى هذا، أيُعقلُ أن يكونَ "الفَراغُ" موجودًا مُقيمًا في الإنسان؟    

***

       والفَراغُ، بمَعنًى آخَر، أن تخلو حياةُ الإنسانِ ممّا يُثريها: اهتماماتٍ وأعمالا ورغائبَ وهواياتٍ وما إلى ذلك. وتاليًا، "يَخلو" الإنسانِ من "واجبِ وجودِه"! كيف؟

       ألإنسان لـ"الوجود"! ألوجودُ، هذا، بمَعنى "الامتلاء" الخَلاّق؛ وإلاّ فـ"الفَراغُ" المُهلِكُ"! ألامتلاءُ الخَلاّقُ يَخلُقُ، في الكائنِ، "كَينوناتٍ" عديدة. كلُّ كينونةٍ كَونٌ. كلُّ كَونٍ إشراقٌ. كلُّ إشراقٍ مَلْءٌ وامتلاءٌ ذاتيّ. فَيْضٌ عَذْبٌ يَفيضُ لا يُفاضُ عليه، ولا فيه! كَينونةٌ كاملةٌ لا تنقُصُ، لا تُزاد. غِنًى نفسيّ روحيّ إشراقيّ يُخصِبُ يُنَوِّعُ يُلَوِّنُ لا يَمَلُّ لا يتعبُ لا يرتاح... والفَراغُ المُهْلِكُ يوقِعُ في جحيميّةِ العمرِ والحياة. إنّه المِضمارُ الواجبُ ألاّ يقعَ فيه المرءُ، وإلاّ كانت حياتُه سُدًى، لا فعلَ لا تفاعل، لا تَأثُّر لا تأثير؛ وتاليًا لا مُشارَكة مُحِبّة، لا انسِجام. فالذّات، هذي، دَوَرانٌ على ذاتِها، في لاغائيّةِ الحياةِ والوجود. ألعدمُ المطلَق!

       ألآن، أطرحُ سؤالاً بسيطًا: من أين للإنسان الفَراغ؟ من أين للإنسان الضّجَر؟ من أين للإنسان الاستسلام؟ من أين للإنسان هذا الانطفاءُ الفكريُّ الرّوحيّ؟

       أرى أن أختصر بالقول: من ضعفِ ذاتِه تُجاهَ ما "يجدُ" من فَراغ المجتمع. ينكفئُ، ينطوي، يُطفئُ أحلامَه، يُيبِسُ طموحاتِه، يترك ذاتَه تتلاشى، تتخلّى عنِ... "الحياة"! بالاستطاعة تَخَطّي ذلك، كلّه، بالإرادة، بالثِّقة، بالعزْمِ، وبالإيمان، يُستَطاع، بالمحبّة، بالرّجاء... 

وطى الجوز 7/10/2012

 

 

 

 

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.