"جـمـالـيـات الإبـداع الرحبــاني"

لـِ مـفـيــد مـسّــوح
ضـوءٌ عـلى قـيـم الخـيـر

يقوم الدكتور مفيد مسوّح في دراسة تحليلية من جزأين، بإيقاظ الذاكرة الوطنية لدى الرحابنة، أعمق من الأغنية الراسخة في البال، كالصلاة نرندحها فتأتي الكلمات تلقائيا مع اللحن مبخرةً بنبرة فيروز، مبللةً بندى أوتارها، إذ يكفي ان نلتفت الى العنوان قبل مفاصل المسرحية كاملة حتى تعود إلى بعلبك لياليها الرحبانية وتصدح أصواتهم في سماء ذاكرتنا.


المقدمة للشاعر هنري زغيب تنوّه بالمنهج الذي اتبعه الباحث في إعداد هذا العمل، من حيث الإطار والشكل والمضمون: "سحب المؤلف لحظة الإبداع الرحباني من مسارها في الزمن وأوقفها برهة ليتأنى في رصدها وتكبيرها مجهرياً لإبراز جمالاتها بكل خصيصة مفصلة فيبقى النصُّ خالداً بنسيجه التأليفي بعد عبور الصوت".

يشمل الجزء الأول الفترة الزمنية ما بين 1960 و1968 التي شعَّت فيها أعمال الرحابنة على أدراج جوبيتر، من "موسم العز" إلى "جسر القمر" و"دواليب الهوا" و"أيام فخر الدين" و"هالة والملك"، وخارج بعلبك في الأرز مع "بياع الخواتم"، و"الشَّخص" في قصر البيكاديللي و"الليل والقنديل".

أما الجزء الثاني فيشمل الفترة من 1969 إلى 1977، ومسرحيات "جبال الصوان" و"يعيش يعيش" و"صح النوم" و"ناس من ورق" و"ناطورة المفاتيح" و"المحطة" و"لولو" و"ميس الريم" و"بترا".

يقول مفيد مسوح في مقدمته: "لم يشهد فن المسرح الغنائي العربي الحديث عطاء بمستوى الشمولية التي استمتع بها جمهوره عبر التراث العظيم للأخوين عاصي ومنصور الرحباني ومعهما صاحبة الحضور الاستثنائي في حياة الناس السيدة فيروز". ويضيف: "ليس الهدف من هذا الكتاب البحث في المدرسة الرحبانية من الوجهة الاكاديمية ولا هو لإثبات عبقرية عاصي ومنصور اللذين منحهما تراثهما هذه الصفة ولا ليضيف شيئا على هذا التراث إنما لتسليط الضوء على ما في هذا التراث من قيم جمالية تسمو بها المشاعر وتثور القلوب محبة للوطن والتصاقاً بالطبيعة وانتماء الى فعل الخير".

من قراءته الأولى لـ"موسم العز" يدخل القارىء في صميم النهج الذي مشى عليه مفيد مسوح لابراز الرسالة الرحبانية تاريخا وبيئة وإنسانا. في قبضة الأخوين رحباني فعل إرادة شرسة لاقتحام الشر، والوشاية على الظلم والاستبداد، بلغة الشعر والموسيقى. في "موسم العز" يذكّرنا مسّوح بأن المحور هو الحب والعمل الجماعي المرتبط بالأرض ومشاعر الناس، "فعلى مرِّ العصور تعلم أهالي الضيع كيف يقاتلون الصخر لتمهيد الارض وتنظيم الحقول وزرعها".

في العديد من المسرحيات الرحبانية، يذكر مفيد مسوح أن فيلمون وهبه (سبع) ومنصور (مخول) ترسخا في أدوار التهريج أو التخريب وأن منصور الرحباني يمثل أدواراً صغيرة في الأعمال التي ألّف حواراتها وأغانيها، بينما يشارك عاصي في شخصية "أبو حمزة" ولهجته البيروتية.

في الانتقال إلى أوبريت "جسر القمر" نقع في أسلوب الشرح الطويل لدى الكاتب. فعلى هامش الموضوع يتحول الى راوٍ يطلع القارىء على عالم الأساطير والسحر والرقيات، ويلهيه عن المحور الأساسي، ليتذكر بعد ذلك أن لديه رسالة رحبانية ينبغي ألا يحيد عن جوهرها. وفي تفاصيلها قاموس اللغة الرحبانية المقطوفة مفرداته من تراث اللبنانيين: "لقد أحيا هذا القاموس آلاف المصطلحات والتعابير والأمثال والتسميات والرموز ومحاصيل الطبيعة ومنها "الرزق" و"شبّوق العفص" و"الحفافي" و"جفت الطيون" و"الهيشة" و"محقان المي" و"المطل"...".


ويعترف مسوح لكتّاب العامية اللبنانية وشعرائها ومسرحييها بفضلهم الكبير في حماية اللهجة اللبنانية ومفرداتها الخاصة وإبراز العلاقة الجوهرية والشاعرية بين الفرد اللبناني ومجتمعه وتراثه الفكري والثقافي والطبيعة اللبنانية من جهة ثانية. أما المفردات والتعابير التراثية التي كانت مهددة بالنسيان فأصبحت عماد اللغة الفنية والادبية، على ما يقول الكاتب، تحمل المشاهد والمستمع والقارئ إلى بقايا صور حفرت في قلب الذاكرة من زمن الالتصاق بالضيعة وغلبة البساطة والوجدانية والغيرية والطيبة.

من هذه العبارات الرحبانية يستهل مسوّح تحليله لمسرحية "الليل والقنديل" بجملة لنصري الحارس: "لا تفزعوا من الليل وجبالو الضو ما بيخاف ع حالو". ففي هذا المشهد "نصل إلى ذروة العقدة الدرامية، ويتوقف المحلل عند محور الضوء والظلمة ومكانتهما في حياة الناس والصراع بينهما، متمثلاً بتناقض الشخصيات في الضيعة. من شعاع الفوانيس التقليدية يدخل في جوهر هذه المسرحية مؤكداً أنها نجحت في تحميل القنديل وضوئه البعد الفلسفي المرتبط بحياة الناس. ولتصوير التضاد تظهر الشخصيات الظلامية التي تقاتل في الليل وتكره من ينير عتمته.

"أنا بسيفي بحرر هالمناطق وبحقق لبنان، وإنتي بالغنية بتخلّيلو إسمو يزهر وين ما كان": بهذين البيتين الغنائيين، يستهل مسوّح تحليله لأوبريت "أيام فخر الدين" بقلم من يرفع علم الحرية عالياً. يصفها أنها ملحمة راقية تجسد كفاح الشعب اللبناني في الثلث الأول من القرن السابع عشر من أجل استقلال وطنه، ويغتنم المناسبة الثمينة للدخول في السياسة التي تنتهجها إسرائيل في تنكرها لحق الشعب الفلسطيني، ومنها درس في تاريخ هذه المنطقة إبَّان احتلال القوات العثمانية لبنان وسوريا طوال أربعة قرون .

مرة أخرى يتحوّل محلّل أعمال الرحابنة إلى أستاذ في التاريخ فيعيد إلى بال الذين نسوا التاريخ محطات منه. لكن من الواضح أن هذه الأوبريت استحوذت على اهتمامه كله تاريخاً وحوارات ورقصاً، فيتوقف عند آلية الحوار بين الكورس المختلط وفيروز في أغنية "علّي الدار رجعو صحاب الحمية/ خلّوا الدار بالبشاير معنيّة"، معتبراً أنها من أجمل آليات الحوار الغنائي الجماعي، أي تأكيد حالة الفرح والاندماج الشعبي في طقوس الحفاوة والتكريم لضيف الوطن. ويعتبر مسوّح أن هذه الأغنية والدبكة المصاحبة تجيء في سياق العمل الكبير مكرسةً العادة الرحبانية في تقديم وصلة من الأغاني التراثية في العمل الدرامي.

ومن "هالة والملك" إلى "الشخص"، يقف مسوّح عند عام 1968، قبل أن ينتقل إلى عام 1969 مع "جبال الصوان" وصولاً إلى "بترا" عام 1977.

 

في مقدمة الجزء الثاني من الكتاب يتوقف الكاتب متأملاً في تحفة الرحابنة "جبال الصوان"، ملحمة البطولة والصمود ومقاومة المحتلين، و"تتوّج مرحلة ارتبط الفن الراقي في أذهان الناس بالمد الثوري المتصاعد وبقدرته على إيقاظ الروح الوطنية والدفاع عن الحقوق المسلوبة". فلا شك ان هذه المسرحية القائمة على البطولة والتضحيات والاستشهاد جاءت كبلسم للعرب بعد هزيمة 1967. مسوّح المتنبه دوماً إلى مجريات الحوادث، يربط "جبال الصوان" بالواقع السياسي الذي تشهده المنطقة من تهجير وتوتر في ربيع 1969 بين اللبنانيين وحركة "فتح الفلسطينية"، رغم أن المسرحية لم تعتمد على وقائع تاريخية محددة.

في بداية الكلام عن كل عمل، يجد مفيد مسوّح عبارة، حكمة، بيتاً من الشعر يتوّج به المغزى. ففي مسرحية "يعيش يعيش" حكمة لمعروف الرصافي تقول: "وكيف تساس مملكة بعدل إذا ما الحكم أصبح عسكرياً؟".

بأسلوب حذق وطريف يتكلم مسوّح عن هذا العمل فيذكر أولاً أنه لم يعرض في دمشق كما تمنى السوريون الذين أعتادوا مشاهدة أعمال الرحابنة في معرض دمشق الدولي. بيد أنه دخل البيوت السورية على اجهزة الراديو والتسجيل ومعها الرؤى الرحبانية ذات التأثير التربوي الكبير. ويضع مسوّح إصبعه في المكان الصائب حين يتكلم في نطاق دراسته للمسرحية عن "لحن" من نوع خاص بعد المقدمة، اعتاده الناس في سوريا ولبنان، لحن البلاغ رقم واحد. والبلاغ رقم واحد اصطلاح تبدأ به كل حركة انقلابية من داخل السلطة الحاكمة او خارجها.
من "جبال الصوان" الدرامية الى "يعيش يعيش" الحذقة بطرافتها وسخريتها، فالى "صح النوم" التي ضربت أرقاماً قياسية في دمشق من حيث تسجيل الأغاني والقصائد التي تتغنى بالشام، وما تضمنته من أشعار سعيد عقل وجبران وعنترة بن شداد وغيرهم. يقول مسوّح: "ليس سهلاً غناء هذا الشعر وتلحينه الاّ لمن تعمق في النحو والصرف والإعراب والشعر. وهذا ما حرص الأخوان رحباني على توفيره لمن يعمل معهما فكانت جمالية التعامل مع الأدب والفن".

 

مي منسى – صحيفة النهار – 12 تموز 2006