الجزء الأول

 

 .........

فـي لبنان، وبالتحديد فـي منطقة الشوف وامتدادها إلى الساحل منحت السلطة العثمانية الحق فـي الحكم للأمير فخر الدين المعني الأول انطلاقاً من سياسة تنويع طرق التبعية وتعيين حكام محليين فـي مناطق بلاد الشام وفق شروط محددة تكفل سيطرة الباب العالي على الجميع. وقد اختار سلاطين اسطنبول حكام الولايات والسناجق من العائلات العريقة صاحبة الامتداد الجماهيري ضمانة للتحكم بأمور الأهالي والحكام وتحركاتهم. ولكنهم اتـَّبعوا دوماً الأساليب الخبيثة لمنع اتفاق أمراء الجماعات والعائلات والعشائر والمناطق والطوائف.. فاتفاق من هذا النوع يقلقهم بما يوفره من استقرار وتنمية وقوة رأوا فيها تهديداً لمصالح السلطنة.

وعلى الرغم من سوء السلاطين العثمانيين وبطشهم وسلوكية القتل والتصفية التي مارسوها تجاه بعضهم أخوة وأبناء فإنهم تمحوروا حول سياسة عامة شعارها التوسع وفرض السيطرة وحالة الخضوع لمركز واحد هو الباب العالي للسلطنة وإن اضطرهم الأمر أحياناً إلى الاعتماد على أمراء محليين وزعامات ذات أصول غير عثمانية. فالسلطان سليم الأول بعد معركة مرج دابق ولـَّى الأمير فخر الدين الأول صاحب المكانة الرفيعة لدى المعنيين وفـي بلاد الشوف مانحاً إياه الثقة والحق فـي حكم تلك المنطقة وتوابعها وسمـَّاه (سلطان البر) مقابل المبايعة ولكنه طالبه فـي ذات الوقت بالولاء والخضوع لسلطة الباب العالي.. وعندما حاول الأمير الطـَّموح توحيد المناطق وتنمية اقتصادها وتطوير قدراتها لتأسيس لبنان المستقل انقلب عليه فأرسل من يقتله فـي عام 1544 بعد قرابة ثلاثة عقود تكونت خلالها طلائع شخصية لبنانية مستقلة متميزة بعنفوان وعزة وطموح وباجتهاد استمر مواجهاً المصاعب بأنواعها لقرون تأقلم خلالها الناس مع الظروف المتقلبة دون أن يتخلوا عن الاستعداد الدائم لصنع الأمجاد.

.........

 أما شخصية فخر الدين فـي مسرحية الأخوين عاصي ومنصور فنقرؤها فـي مشاهد هذا العمل الرائع منذ عودته من توسكانيا ــ إيطاليا، وحتى (أنا بعـْرف شو النهاية.. بدُّو يـْكون فـي نهاية) رمزاً لبطولة وطنية يفتخر التاريخ والناس بذكرها وعلامةً مضيئة لابد وأن تتكرر لأنه لا قيمة لأرض تخلو من شعب يعمـِّرها ويحافظ على مسيرتها الصاعدة وبنيانها وعزتها.

عبر مقدمة موسيقية رائعة تتموج نغماتها كالبحرِ تتراقص فـي رتابة موجاته صورُ الحكاية التاريخية الشيقة ينقلها لنا العبقريان رحباني بإبداعية فائقة القدرة وأمانة تحالفت مع المرونة بنزاهة ومهارة، تضعنا المسرحية فـي مشهدها الأول على شاطىء مدينة عكا فـي ليلة فتية القمر تكسر سكونها أصواتُ أهالي عكا وآخرون من أطراف لبنان تخاطب فخر الدين البعيد فـي الغرب:

فخر الدين... ارْجــــاع...

فخر الدين.. هـــــــــــــايْ         هــــــــــــــايْ  هــــــــــــــــــايْ

.........

 تنقلنا الأوركسترا عبر مدخل تحفيزي إلى دبكة تقدمها المجموعة ووصلة غنائية فائقة الحيوية متحولة لفيروز والكورس لأداء أغنية (دبكة لبنان) من مقام البيات، للبنان فـي عيده الكبير ولفخر الدين تعبيراً عن الحفاوة البالغة:

الكورس: هــــــــــــــــــاي... يــــــــــــــــــاه...

ويتبادل شباب وفتيات الكورس فـي حوار أخاذ مع الأوركسترا ومصاحبة إيقاع الأكفّ ونغمات الناي الساحرة المدخل اللطيف:

لا لا لاه       يالالاه

لا لا لاه        يالالاه

/ يا لا لاه       يا لالاه       يـــــــــا لالاه

يـــا لالاه     يا لالاه يــــــــا لالاه / (2)

عطر الليل:     دبـْـكة لبنـــان بالمـَلـْـقـى             دبـكة شـَيـْـل السـَّواعـِدْ

                نزلو الفرسان عَ الحلـْقة              والسيف الأبيض واعدْ

                ضـاق الميدان

الفرقة:          بـِضـْيوفـو

عطر الليل:      والملعب لان

الفرقة:          لـَسيوفـــو

عطر الليل:      طـَلـُّو الغزلان تـَ يـْشوفو         والسـَّاعـِدْ يشـْبـُكْ ساعـِدْ

الفرقة:          دبـْـكة لبنـــان بالمـَلـْـقـى

 .........

فـي الساحة مجموعة من الفلاحين تغبطهم الحياة الجديدة وخيرها فينشدون أغنية ترعاها الأوركسترا بلحن عذب جميل تتحاور فـي مقدمته آلة الكمان مع الرِّق والدربكة لتخلق حالة من الطرب العفوي المقترن بمشاعر الزهوّ تضيف على جماله الأنوثة الرقيقة فـي صوت العنصر النسائي وهو يتحاور مع صوت الشباب تارة والموسيقا تارة أخرى وكذلك الأجساد المتمايلة للفتية والفتيات تناغماً مع اللحن و.. :

الجميع:                      / صـَرِّخْ ياديب           من وادي لـَوادي

شـَرِّق يا ديــب          من وادي لـَوادي

طلــــْعـِت الشـَّمـْس

الشمس الـْجايي مـْن البـَحـْر        الشمس الـْجايي مـْن الـلـَّيـلْ

وَيـْن فـِيــْك تـْغـِيــْــــــــــب        يــــــــــا ديبْ / (2)

 .........

العساكر:                يا مـْهـَيـْرِة العـَــلالي   فِـرْسانـِكْ نــاطـِرِيـن

وِانْ يـِهـْدُر الشـِّمالي     قـُولـِيـْـلـُنْ نــاطـِرِين

عـُرفت هذه الحرب بـِ (معركة عـَنـْجر) نسبة إلى المنطقة بين (نبع عنجر) و (مـَجـْدَل عنجر) التي استدرج الأميرُ فخر الدين الوالي المعتدي إليها ثم قام بعملية التفاف حاصره فيها فـي جيب بين عنجر ووادي القرن فقضى على قواته وعاد به أسيراً فـي الحادي والثلاثين من تشرين الأول عام 1622.

معركة عنجر الشهيرة رمزٌ من تاريخ الكفاح اللبناني ذوْداً عن حرية الوطن سـُجـِّل لفخر الدين فـي حينه ووثـَّقته الكتب والسـِّيَر ولوحة شهيرة يُحتفظ بها متحف اللوفر فـي باريس ولها نسخة واحدة موجودة فـي وزارة الدفاع فـي لبنان.. كما أن الأخوين رحباني خصـَّا المعركة بأغنية قدمتها فنانتنا العظيمة فيروز.

 .........

ها نحن فـي الميناء ثانية وقد ظهر الصيادون وامتلأت الأرصفة بالبضائع وبالأسماك وتلألأت الوجوه الفرحة بالخير.

لحن رائع ودولاب بالغ الروعة يدعونا فوراً إلى جلسة حميمة مع البحارة وعمال المرفأ والسوق وشيخ الميناء سيد البضائع والمراكب والسوق يستضيفنا ويستضيف أصحابه فـي واحدة من أجمل الصور البحرية وأمتعها.. واختيارات الأخوين رحباني كانت على الدوام مدروسة وشاملة، فالهارموني فـي الموسيقا وفـي أداء المغنين والانسجام مع الموقف والبيئة مرسومان بدقة بالغة لدرجة من الصعب علينا أن نتصوَّر شيخ الميناء فناناً آخر غير محمد مرعي أو لغة ومفردات غير تلك التي يسحرنا جمالها وهي مجرد كلمات بسيطة بـَحرية الطابع.. حتى اللهجة البيروتية هي جزءٌ من جمالية الأغنية التي نستمع إليها من الصيادين وهم يلتقون شيخ الميناء ويحتفلون بالغلـَّة الوفيرة:

الصيادون:      / يـِـــخـْزِي الـْعـَيـْــن    يـِــــــخـْزِي الـْعـَيـْــن

هالـْمينا بـِتـْمَلـِّي العَيْن     يـِخـْزِي الـْعـَيـْن والـْعـَيـْنـَيـْن / (2)

.........

ولمـَّا حاصر عسكر الكجك أحمد المغارة وطالبوا الأمير بتسليم نفسه لم يتردد بذلك توخياً لحماية البلد من الحرب الطاحنة. وطالما أن الأمر أصبح مقايضة فليسلـَّم نفسه بشرط وقف الحرب ودون أن يطأطيء رأسه بل طالب بالذهاب إلى القسطنطينة فـي موكب يضم كل حرسه وما يحتاجونه من مال و (والابْواق عم تعْزُف قـِدَّامـْنا)..

ورداً على تساؤل الشيخ خاطر والضباط (لـَيش عـْملت هـَيك؟) وإبداء استعدادهم للقتال (خـَلـِّيـْنا نـْقاتـِل يا مـِيْر) يصرِّح الأمير عما يريده للبنان مسجلاً حكاية قائد بطل ناكرٌ لذاته نزيهٌ غيورٌ على وطنه وشعبه قلـَّما عرف التاريخ له مثيلا.

لأ.. مــــا بـَدْنا نـْهبـِّط ياللـِّي عمـَّرنــاه..

واللـِّي بـَدْنا نـْقـــُـــــولو قـِلـْنــاه !!

وْعرفو بـِإنـُّو لبنان كان.. وصار.. وبـَدُّو يـِبـْقى

لبنان انـْبنى.. وهـَلـَّق المفاوضة صارت عـْـليِّي أنـا

 

ولم يبق للشيخ خاطر سوى شد الرِّحال مع رفيق دربه الأمير ومن بقي من زملائه الضباط وقد حلَّ اليأس محل الأمل (تـأخـَّر الشـِّتي.. الهيـْئة مش رح بتـْشـَتـِّي). أما عطر الليل فقد كسرت المفاجأة قلبـَها وكأنها لا تكاد تصدِّق أنها فـي نهاية ملحمة البطولة (معـْقول تـْكون النـِّهايـِة ؟؟    وْهـَيـْك بـْيـِخـْلصو الأبطال!!)

الأمير:                         إذن صــــــــــار بقـْدُر روح

أنا شو بيهمّ بـْـقيـْت أو ما بـْـقيـْت..

هـُـــــوِّي بـْـيـبـْــــــقى

 

تحميل الصفحة كنسخة ملائمة للطباعة