الجزء الثاني

.........

مع المشهد الأول ندخل إلى بيئة الحرب ومقاومة جبال الصوان برجالها وحجارتها ومعاول فلاحيها وعمل النساء في حقولها ويضعنا النشيد، الذي يؤديه الأهالي، في ساحة أسـَفهم لما حلَّ بهم وهم يبغضون الحرب وسفك الدماء وقد أقحمهم الأعداء في أتونها ظـُلماً.

فتيـان:      بـَعـْدا جـْبــال الصــــوَّان عـَمْ بـِتــْقـــــــــــــــاوِمْ

عَمْ بـِتــْقاوِم عَمْ بـِتـْقـاوِم عَمْ بتـْـقاوِمْ عـَـمْ بـِتــْقـــــــــاوِمْ

زَحـَف الــزَّحـْــف عـْـلــَيـْهـا وَقــَـع الـْوَيـْـل عــْلـَيــْهـا

خَـيـْل وْعـَسـْكـَر   وِقـْـواس الـنـِّـشـَّـابـِة   تـْعـِنّ وْتـِرْدِي رْجالا

فتيـات:            يـــا حـَـيـْـف الإيـــَّـام الـْحـِـلـْـــــــوِة

                    يـِخـْـتـِمـْهــا الـدَّم  يـِنـْـهَـبـْهـا الـْمَوت الصـَّـارِمْ

فتيـان:             طــِـلــْـعـُــو عــْلــَيـْها مـْن السـَّـهــْـل

                     طــِلـْعـُـو بـْلا خـَـوف    وْلا حــِزْن وْلا أهــْـلْ

فتيـات:             طــِـلـْعـُـو عــَلى نـاس

                     في عـِنـْـدُن حـزْن   وُوْلاد  وْ أهــْـــلْ

فتيـان:              وْبـَعـْدا جـْبال الصوَّان عـَمْ بـِتـْقـاوِمْ

........ 

ينتهي المشهد واضعاً إيـَّانا في الوطن المحتل وفي صور معاناة أهله وكفاحهم المرير من أجل استرداده. ويبدأ المشهد التالي في واحدة من ساحات البلد وقد خيـَّم الحزن والوجوم على زواياها المـُقفرة من الناس ماعدا العجوز (حنـِّة) التي تقف ساندة ظهرها المحني إلى جذع شجرة أصابها اليباس وتـُكلـِّم نفسَها مع تنهيدة تخبـِّيء وراءَها حزناً وألماً وحسرة على من راح وما راح:

حنـِّة:              سـِنـِة.. اتـْـنـَيـْن.. تـْلاتِــــة.. مـَرَقــُو عَ مـَـــوْت مِدْلـِج

                    أرْبعة.. خمـْسِة.. سـِتّ سـْنين مـَرَقــُو عَ مـَوْت مِدْلـِج

                    سبعة.. تمـانـي.. تـِسـْعـَة.. عشـْـــــرة

                    وْفـاتـِك المتـْسـَلـِّط محتلّ جـْبــال الصوَّان

                    وْأنـــاعـَمْ خـَتـْيـــــِر ســِنـِة عن ســـِنـِة

                    والأهـالي: ناس نِسـْيـُو.. وناس عـَمْ يـِنـْسـُو.. وْناس ما نـِسـْيـُو

                    وْصـُورِة مدْلـِج عـِتـْقـِت

                    وْبـَعـْدا مـْعـَلــَّقـة عَ كـَم حـَيْط   ببـْيوت نســـوان لابسين أسـْوَد

                    أنا حنـِّة السـَّـاحـْلانيـِّة وْصـُورِة مـدْلـِج قاعـْدِة عنـْدي عَ الحـَيْــط

                    أنا بـَعـْرِفـُــن كـِلــُّـــن ..

العجوز رمز الأم في جبال الصوان. هي سجلُّ حكاياتها وسـِيَر أبنائها وعائلاتها في انكسارهم كما في عِـزِّهم، وهي المرجع لما غاب عن بال الأهالي والمـُرشد فيما يفعلون عند الشدَّة.. وهي قارئة فناجين القهوة بعد أن يحتسيها الحالمون والحالمات عند راحتهم تستحضر لهم مستقبلـَهم وتدغدغ عواطفهم المكبوتة، تـَعـِدُ من تـَعـِد وتنبـِّه غيرَه وتـُضحِك ثالث.

 ........

وترمق غربة الناس بنظرة فيها من مشاعر عدم الرِّضى ما يغلب مشاعر الحزن.. فهي لا تريد أن يبقى اليأس مُسيطراً على النفوس، وهي لا تختصر المأساة باستشهاد والدها فينسى الناس كارثة الهزيمة أمام المحتل وحالة الاضطهاد التي يعيشونها والتي أتتـْهم من أجل السعي للخلاص منها:

                 غربـِة:              خـَـزّقـُــــــــولي هالتــّيـاب السـُّـــــــود

  خـَـزّقـُـــو هــالـْخـَوْف والـفـَـــرَح يــِــــرْجـــــــع

وْرايــِــة العـِـــــزّ الـقــَـديـم تـْـعــُــــود

رجـّعــُـــــــو إلـْـفـِــــــة هـاك الإيــَّــام

إيـَّـــامـْـنــا الـْـحـــِلـْـــوِة بـِـجـْـبــالــْنا الـسـَّمـْــــــرا

وِبـْـيـُوت تــُـوعـى عَ الـْـهـَـنـا وتـْـنــام

مـَـجـْــــــدْنــا يــِـنـْعـــاد والـْهـَوى يـِـنـْـــــــــــــزاد

وِنــْــــــــرِدّ الـِــعـْــراس  وِنــْـــــرِدّ الـِــعـْـــياد

تـْــزَلـِـغـْـطـُـــــو وْتِـرِقـْــصـُـــو وْيـِكـْبَـرو الـِولاد

إعلان صريحٌ وجريءٌ ومُبكر من غربة، صاحبة الروح الثورية ووريثة الكفاح من أجل الوطن استهلـَّت به عودتها مذكـِّرة الأهالي بالعزّ والفرح أيام السيادة والسلم. فهل يتجاوب الناس مع دعوتها؟

                 الجميع: / غـِــربــِـة يــــا غـِــربــِة   يا مـَرْبى الـشـَّوْق وْقـَمـَر الغـِـربـِة

                 يـا هـَـمّ جـْـديد انـْـوَلــَد بـْعـِيــْد   وْإجـا عَ الـْـعـِيـْد يـْضـَوِّي الغـِرْبـِة / (2)

وتبادلهم غربة مشاعر الفرَح والغبطة باللقاء الذي ستبدأ معه مرحلة جديدة سيكون لتضامن الأهالي ومحبتهم لبعضهم وللوطن الدور الكبير في تحريره وعودة الفرح والعزّ:

غربة:       هـَيـْـهـات يـابـُو الزِّلـُـف         عـَـيـْـنـي يـا مـُـولـَـيــَّـا

            عـِـدْنـا عَ أرْض الـْ لــِـنــا       وْعــاد الـْـهـَـنـا لـِـيــَّــا

 .........

 

سنوات سيطرة فاتك وتسلطه على أهل جبال الصوان لم تـُنـْه فيهم روحَ التمرد عليه والكفاح من أجل الحرية، وإن أدت شدَّة قمعه وسياسة البطش والإرهاب التي مارسها عليهم إلى خوفهم ويأس بعضهم وهجرة آخرين. ومازال أمام غربة الكثير لعمله كي تعيد إلى الأهالي الثقة بالنفس والعزيمة القوية والتضامن والسير في طريق الثورة ودحر العدو، فهي طريق صعبة وتتطلب بذلاً وشجاعة واستبسالا. ففي حين يتردد البعض بسبب خوفهم من الحرب ومن قلـَّة عددهم وعدتهم (وْيرْجع الـِقـْتال مـْن جـْديد؟!) تحذرهم غربة الواعية والكريمة النفس مما يدفعونه من ثمن.

الوعي أكثر ما يقلق الفاتكيين وعملاءهم.. صرَّّح بهذا شهوان محذراً (وِعـْيـُـو وِعـْيـُـو) عندما أحسَّ بدور غربة وشاهد بعينيه وسمع بأذنيه ما فعله الأهالي وما جاء في أغاني غربة والآخرين في عيد العنب وفي عرس ابنة أبي صقر.

للوعي ونشره مكانة كبيرة في الأدب الرحباني. في جميع أعمال الأخوين حِصصٌ لهذا العامل الكبير الأهمية في التحرر والتطور الاجتماعي. والوعي ثقافة.. والجهل وحَصْر انشغال العقل بتوافه الأمور، كالمال والممتلكات والنفوذ والتميز الفردي، سلاح فتاك يستخدمه أصحاب المصالح الأنانية لقمع الناس واستعبادهم. وأكثر ما سلط الأخوان رحباني الضوء عليه هو العلاقة بين الوعي وحرية الوطن والناس.

فغربة، التي أدركت في سنوات غربتها العشرة في بلاد المهجر دورَ الوعي في ضمان الحرية والحفاظ عليها نقلت معرفتها إلى أهل جبال الصوان منذ وصولها (لما صار الوقت جيت).. وفي عيد العنب طـَمْأنت الناس بأنها وآخرين ليسوا نائمين بل يحضِّرون أنفسهم للثورة على الطغيان (لـَوِّح ياسـَيْف رَجـْعِتـْنا قـَريبـِة) وأن الوعي بدأ يعمّ الوطن (من حيّ لـْحيّ عم توعى البـَشاير) وأن الحرية قادمة لامحالة (شمس الهـَنا جايي والليل عم بيروح) وأن العدو إلى الهزيمة (هَرَبو التـَّعالب من وِجّ النـَّواطير)! ..

وعندما حاول الفاتكيون الذين أغاظهم بناء (بلاد الفي)، (قـَناطِر مضويـِّة) والفرح الدائم في أبراجها وساحاتها، عندما حاولوا إعادة الأهالي إلى حالة اليأس والإحباط عن طريق نشر الإشاعات وخلق البلبلة في صفوفهم، ظهر دور الوعي والشجاعة على لسان غربة (هدِّتـْكـُن الإشاعات؟) و(لا تـْخافـُو) مذكـِّرة الجميع بما سجـَّله تاريخ البشرية من مآس (غـَمَر الطـُّوفان الأرض ـــ هـَدَمِت الـِحـْرُوب المُدُن ـــ اسـْتـَعـْبـَدو الظـُّلاّم النـَّاس) وكيف تجاوزها الإنسان بنضال (اللـِّي بـِقـْـيـُو) ..

 

.........

 

ماتت غربة وهي تحضن البوابة كما فعل أبوها. وقبل أن تنطلق أبواق فاتك لإعلان النصر انطلقت أهازيج وزلاغيط أهل غربة وهم يتقدمون دون خوف من جسدها الذي مازال ملتصقاً بالبوابة وذراعاها متمسكتان بطرفيها فيما بدأ سعد والرجال يتقدمون شاهرين أسلحتهم بوجه فاتك الجبان وجماعته، وبدت من بعيد جماهير قادمة مدججة بالسلاح دعماً لسعد والأهالي.

 

وإذ يعطي ديبو الأمر بالاشتباك يصرخ فاتك خوفاً:

فاتك:                  لا.. عـَبـَث كلّ اللـِّي صـار.. عـَبـَث اللـِّي بـَدُّو يصير

    قـَـتـَلـْـنـا الـْبـَيّ.. قـَتـَلـْـنـا الـْـبـِـنـْت.. وْعـَبـَث، شو بَدْنا نـِقـْتـُل تـَ نقـْتـُل؟

مـا بَقى رَح تِخـْلـَص الـْقِصـَّة.. اوْلاد مدلج، إخوة غربة عم يـِخْلَقُو كلّ يَوم

ديبو.. خـُود العـَسْـكـَر وِاهـْرُب، ياحـِّـنـِّي جايين.. من خلف الصخور جايين

من تحت الشـَّجـَر جايين.. وْجـايـيـــــن من إيـام الـْغـَضـَب!!

إيـْدَيـْن عـَم تـْلـَـوِّح بالزَّمـان.. وَين بدْنا نـُوقـَف؟

جـَيـْشي تـْـياب مـْخـَزَّقـَة بين الصخور ..

اهـْرُبو تـَ نـِهـْرُب قبل ما يوصَلو اللــِّي جـاييــن.. اهـْرِبـُــــو

 

ويتراجع فاتك وديبو وضباطهم وعساكرهم والحراس يجرون أذيال الهزيمة ورؤوسهم تتلفت من الخوف وقبل أن يغيب فاتك صرخ وعيناه تتأرجحان بين بوابة الجبل وامتداد السهل البعيد:

فاتك:        يــاجـْـبـال غربـِة.. يــاجـْـبـال مـِدْلـِج.. يــاجـْـبـال الصـُّـوَّان ..

 

تحميل الصفحة كنسخة ملائمة للطباعة