الجزء الثاني

 

........

 

ما من شكٍّ بأن لولو، التي نالت سنوات السجن الطويلة من صحتها وسعادتها بعد أن حُرِمت حقَّ الدفاع عن نفسها وفشلت في مقاومة الشهود الذين خضعوا تحت ضغوط أصحاب المصلحة في تلفيق التهمة لها وتـَبْرِئة المجرم الحقيقي، تـُدْرِك بأنَّ ضعف الناس تغلــَّب عليهم في ذلك اليوم الصَّعب. ولكنـَّها لا يمكنها أن تنسى خمسة عشر عاماً قضتها بعيداً عن الضـَّوء والأهل والحبّ. وفي حين يشعر البعض، وخاصة النساء بالخجل فيعترفون بذنبهم ويبدون أسفـَهم واعتذارهم لا يجد آخرون حاجة لكلِّ هذا، خاصة وأن المعنية فتاة (سْويْعاتيـِّة):

               رََجـُل :               إي ما بدَّا هالأهميـِّة. انـْحَبَسِت وْخـَلـَص

               رََجـُل آخر:        وْإذا شـْهَدْنا عـْلـَيـَّـا. هايْدي وَحدِة كلّ ساعَة عَقـْلاتا شِكِل

               رَعْد المجنون:      حـَدا بيقِـلـَّـك سْوَيـْعاتيـِّة!

لم يَرُق الحديث للبويجي وهو أكثر النـَّاس عقلانية وإنسانية فيحتجُّ مُذكـِّراً الرِّجال (وْظـَلـَمْتوها خـَمِسْتـَعـْشـَرْ سـِنِة) فيجيبه الرَجـُل الأول بفظاظة (واعْتـَذرْنالا وْخـَلـَص.. هيـِّي حِرَّة تـِنـْسى أو ما تِنـْسى)

البويجي:

كـِلـّكـُنْ شـْهـِدتـُو زور!.. حَطـَّيـْتو الجـريمة بــِضهْرا تـَ تـْخـَلـّصُو حالـْكـُن

من الطـَّبيعي أن يحمق الرِّجال وبعض النسوة من جرجي البويجي الذي يعلم ويصرِّح بأن من شهد على أن لولو قتلت يونس قد شهد زوراً لذا يطالبه الجميع بالصـَّمت (اسْكـُـتْ!) ويحاول أحدهم تفادي الصـِّدام (وْإنت لـَيش مِحْتـَدّ ؟ يمْكِن هِيـِّي نِسْيــِتْ) فتتأثـَر لولو بكلام الناس واستمرار سلوكية التجريح والمواقف اللاإنسانية تجاهها فتغني:

لولو:           إنـْســــى!  كـيـْـف؟            والـْخـَمِسْتـَعـْشـَرْ سـِنِــة؟

كــِنـْــت بـْهــالــدِّنــي    وْ مـا كــِنـْت بـْهــالـدِّنــي

وِتـْصَـيـِّـف وِتـْـشــَـتــِّـــي  بــِدونــي   الـدِّنــــي

إنـْســــى؟   إنـْســـى؟   إذا بــِقــْـــدُرْ إنـْـســــى!

 ........

لولو:          لولو:  شوفو! إنـْتـُو اتـَّهَمْتوني بْجَريمِة قـَتـْل، وانـْحَبَسْت خـَمِسْتـَعـْشـَرْ سـِنِة وِطـْلـِعِتْ بالآخِرْ بَرِيـِّة. فـإذنْ، إلي عِنـْدكـُن جريمِة دافـْعَة حَقـَّا سَلـَف. اصـْطـُفـْلـُو.. بَدِّي إقـْتـُل واحَد مِنـْكـُنْ

طغى الخوف على المساومة والادعاء بالأسف وصمت الجميع وهم يتفرَّقون ثم عاد البعض إلى التجمُّع والتهامُس في محاولة لإيجاد حلٍّ، لأنهم يعلمون أنَّ الخارجة من السجن (سـُوَيْعاتيـَّة) الشخصية ومُتقلـِّبة الطـِّباع وربما نفـَّذت ما توعـَّدَت به !! فمن هو المُرَشـَّح ياتـُرى ليكون ضحية جريمة الاتهام؟

 

........

 

ينتهي المَشْهَد فننتقل مع تاليه إلى حارة لولو التي فتحت شبابيك بيتها وباب الدَّار وقامت بترتيب الأشياء ونفض الغبار عن مقتنياتها التي اشتاقت للمسها ومداعبتها في غيابها الطويل وراحت في ذكرياتها إلى الماضي اللذيذ وصُوره وناسه وزوايا الشوارع العتيقة، شواهد الأيـَّام المتراكضة عبر ما تحتضنه من أوراق الشجر الصفراء المتهادية خريفاً تلـْوَ خريف تكبر معها البيوت وأحجار الطرقات ونكبُر ونبعد عن الطفولة وحلاوة الطفولة وبراءة العيون ودفء القلوب وتهرم الأشياء وربما تنتهي إلا الوطن الصنديد يتجدَّد بالزمن كأنه حليفه فيبقى طفلاً بريء العينين دافيء القلب عزيزاً غاليا.

وواحدة من أجمل الأغاني التصويرية على لحن فائق النـُّعومَة من مقام (كرد دوكاه) وأوركسترا غربيـَّة الإيقاع بصوت فيروز الدافيء السَّاحر

لولو:             في قــَهْــوِة عَ الـمَـفــْرَق     في مَوْقــَدِة وْفي نـــــــار

نـبـْـقــى أنـا وْحـَبـيـْـبـــي   نـِـفــْـرِشـْـهـــا بـالأسـْـرار

جــِـيـْـت لـْـقـيـْـت فيـْـهـا   عـِشــَّــاق اتـْنـَيـْـن زْغــار

قـَـعـَدو عـَلى مـَقــاعـِـدْنـا   سـَـرَقـُـو مـِنـَّــا الـمـِشـْوار

يــــــا وَرَق الأصـْــفــــر     عـَم نـِكـْـبـَـرْ عـَم نـِكـْـبـَـرْ

الـطـِّرْقات       الـِبْيـوت      عـَم تـِكـْـبَـرْ عـَم تـِكـْـــبَـرْ

تـِـخـْـلــَص الـدِّنــــــــــي

وْما في غـَيـْرَك يا وَطني          يــــا وَطـَني يـــا وَطـَـنـي

 ........

لقد أرادت لولو التي تحتفل بخروجها سالمة من السجن وبزيارة جدِّها المُسنِّ أن تـُشْرِكَ الجميع باحتفالها في محاولة معهم لطيِّ صفحة الماضي السَّوداء ومصافحة الأيام القادمة بأيادٍ بيضاء ووجوه مشرقة وقلوب تعتمد المحبـَّة عنواناً للحياة، وهي إذ تظاهَرَت بتعاونها مع القبضايات وبنيـَّتها الانتقام من أحدهم، وهم سبب ظـُلمها، لم تكن تقصد من وراء ذلك سوى هـَزَّ رؤوسهم وإيقاظ حُبِّ الخير في نفوسهم بدل الأنانية والحقد والكراهية التي طغت عليهم، وفضْحَ الفساد والفاسدين سعياً لتنقية المجتمع منهم.

تبدأ حفلة العشاء تحت ضوء القمر برقصة شرقية فردية على لحن طرب تقدِّمه الأوركسترا بقيادة أكورديون الياس الرحباني تـليها أغنية مرح تبدأ بمدخل هاديء يرافق فيروز فيه غيتار كلاسيكي، ثم تتحول إلى أغنية حيوية ورقصة جماعية لذيذة بلحن غربي الإيقاع، والأغنية التي كتب كلماتها ولحْنها الموسيقار الياس الرحباني تـُحدِّثنا لولو فيها عن ذكرياتها في ضيعة الطفولة التي سيـَّجت الورودُ طرقاتـِها وملأت ساحاتـِها أغاني الفرح ورائحة الحبّ

لولو:                    كـان عنـَّـا طـاحـون     عَ نـَـبـْـــــع الـمـَــيّ

قـِدَّامـُــو ســـاحــات  مـَـزْروعــَــة في

وْجــِـدَّي كـــــان   يــِـطـْـحـَـن لـِـلـْحـَيّ قــَـمـْح وْسـَهـْرِيـَّـات

 

تحميل الصفحة كنسخة ملائمة للطباعة