الجزء الثاني

 

........

 

دون أن يعنيا به حالة "الهجرة"، والتي اعتبراها اقتلاعاً انهزاميـَّاً أو قسريـَّاً، فقد كان للسفر حصة كبيرة في الأدب الرحباني الذي يمتـَّعنا بصوره وعباراته وأسرار جانبيه المادي والخيالي. فهو الوسيلة لاكتشاف المجهول ولتوسيع رقعة المعرفة وتعميق الإدراك وهو الفرصة لتفادي العجز والنقص والضـِّيق وللاحتكاك بالآخرين وتبادل المواد والأفكار والخبرات والثقافات والمواقف ولقتل الملل والضـَّجر ولتحطيم قيود المكان واستبعاد اليأس والإحباط.. وهو العالم الفسيح الذي لاحدود له ولا أبواب أو نوافذ.. وهو البحر المترامي الأطراف والسماء الممتدة والخيال الجامح أنـَّى اشتهى المرء وكيفما أراد.. في عربات السفر الخيالي نحلق دون سقف ونغوص دون قاع ونمسك الأفق بأيدينا كالخيط الحريري في ليلة ربيعية النسيم. نسافر مجـَّاناً ودونما حاجة إلى وثائق أو تذاكر أو زوَّادة طريق وتتلألأ أمامنا صور العالم المغاير لواقعنا فنبتهج ونتوق للوقت الذي يصبح فيه حلمنا حقيقة، فإن حصل هذا اخترعنا سفراً آخر إلى عالم آخر لا يقلقنا بُعْدُه ولا ضبابه.

لولا السـَّفر لما كانت الحضارات.. لولاه لبقي الإنسان حبيس الكهوف وأكواخ الغابات. ولولا الخيال لما كان الإبداع والتجدُّد.. ونحن نعيش في بداية القرن الحادي والعشرين يحلو لنا أن نتذكـَّر كم من حقيقة اعتدنا عليها الآن وصارت من وسائل حياتنا اليومية التي لا غنى لنا عنها كانت يوماً ما حلـُماً؟!

هذا ما أراد الأخوان رحباني قوله من خلال محطـَّتهما التي لم تأتِ بالمصادفة أبداً وإنما باختيار ذكيٍّ للغاية لربط السيرورة الحضارية بعنصرين قويـَّين هما عمادها: الخيال والحركة.

وإننا، إذ لم يخـْبرْنا نص المسرحية عن المكان الذي جاءت منه لعبة المحطة عند وردة، ربما لقلـَّة أهميتها، نقتنع مع سعدو بالانطلاق من حقله (آه يا بطاطا) مُقرِّين أنه (في البدء كانت البطاطا) وما أن ظهرت فكرة المحطة حتى خـُلق لدى الجميع الحلم الوردي (وْليْش مـا يجي الـتـّريـْـن) طالما أن السعادة والرَّخاء سيحلان بوصوله (وْتـِـغـْلا أراضـيـْـنا، وْيــِسـْعـَدْ ميـن ما كـانْ)!.. لابل سيحلُّ معه الانفتاح والوعي (يـْـوَعـِّي الـسـَّـهـْل الغافي). وهانحن في محطات السيرورة الحضارية كما هما وردة وسعدو، وقد كرَّست الحياة في بيئتهما الحاجة إلى المحطة فأصبحت واقعاً لا جدل فيه، ها نحن نتسلـَّح بمقولات التراث الفكري المادي.

يجدر بنا الانتباه إلى عنصر محوري آخر في المسرحية هو وجهة القطار ووجهة السـَّفر وموضوع أول أغنياتها وقد كانت عبارتـَها الأولى أوَّلُ ما لفظته صاحبة الأطروحة مع وصولها (لـيالـي الـشـِّمـال الحـَزيـْـنـِـة). نحن إذن عازمون على السفر باتجاه الشمال. يذكـِّرنا هذا العنصر بنزعة السفر شمالاً في بيئة رواية الأديب السوداني الطيب صالح في عام 1966 (موسم الهجرة إلى الشـَّمال)، دون أن نعني التشابه في البيئتين. غير أن التراث الثقافي الإنساني لحضارات الشمال والجنوب يبرهن بجلاء على التطور الكبير في الوعي والإدراك وفي روح المغامرة والإقدام التي اتـَّسَمتْ بها المجموعات البشرية الزاحفة باتجاه الشمال، حاملة خبراتها ورصيدها المعرفي تصقله في "محطات الشمال"، مقارنة مع الآخرين الساكنين في أدغالهم وواحاتهم وصحاريهم، وقد أصابهم الملل والكسل والجمود.

وفي الجانب الخيالي للسفر في مسرحيتنا حريٌّ بنا أن نتذكـَّر العلاقة الهامة بين عالم الإبداع الرحباني وعالم الخيال الفسيح الذي بدأ مع الطفلين عاصي ومنصور في حضن جدَّتهما وهي تقصُّ حكاياتها من الخيال في أواخر الثلث الأول من القرن العشرين وانتهى بعاصي في آخر حياته بإبحار لا حدود له في عالمي الكون والنفس البشرية أصاب منه أفولاً اعتصرت بسببه قلوبنا.

 

.........

 

شخصية الحرامي ملائمة جداً لدراما "المحطة". فوردة بحاجة إلى شخص قادم من عالم رحب الخيال خارج عن المألوف متمرِّدٍ على قيوده يتعدَّى طموحُه الكفافَ بمفهومه المادي ليحلـِّق بدون سقف في عالم التمتـُّع بالحلم المولود بقلب الحلم. وما من شكٍّ بأن شخصية كهذه بحاجة إلى ممثل بارع يرسم حضورَها بقدرة إيحائية متميزة وببراعة في تقمُّص صاحبها فكان اختيار الفنان الكبير (أنطوان كرباج) موفـَّقاً.

يبدأ "قاطع التذاكر" عمله وسط دهشة شرطي البلدية الذي تردد في أن يفعل شيئاً طالما أن هذا الشخص (يلبس بدلة) رسمية، على حد قول وردة، وأوَّلُ مسافر اقترب من نافذة الكشك يطلب تذكرة وردة نفسها مما أثار استغراب قاطع التذاكر (إنتي مـْصَدّقـة إنـِّي قاطع تذاكـِر؟) وعلى محاولته إقناعها بأنه حرامي و(كِنـْت لاحـْقِك تـَ إسِرْقِك) تردُّ وردة بخبث وبلغة جازمة (كنت مِفـْتـِكِر حالـَك هيْك)

الحرامي:         أنا عم قـَطـِّع تذاكِر كذب

وردة:             ياحرام شو غلـْطان. هايْدي أوَّل مَرَّة عم تـِشـْتـْغـِل ؟

الحرامي:         وْعارِف إنـُّو التـّرين مش جايي

وردة:             جــايــي.. جــايـــي

ولكِنَّ الحرامي ذي العقل المتوهـِّج والجسد السابح في (الهـُوِّة اللـِّي إسِمـْها اللـَّيْل) لا يصل في خياله إلى العمق الذي تـُبْحر وردة في غياهبه والذي يشترط هنا إحداث الانفصام في شخصية الحرامي قبل الخوض في المرحلة الثانية من المغامرة، وهي بيع التذاكر وانتظار القطار!

                 وردة:          الانتظـار خـَلـَق المحطـَّة وْشـَوْق السـَّـفـَر جاب التـّريْن.

ثم تحادث وردة نفسها بعد أن أيقنت أن وقت الجدّ قد حان:

                 وردة:         قـَرَّب الموعِدْ.. والشـَّوْق اكـْتـَمـل     نِضـِج بـْإيـَّـامـْنا الصـَّيْف

                  صــار المـَطــر عَ الشـَّبابيـك.. واللـِّـي نـاطـْرينـُــو

                  رَح يـْـدِقّ البــاب

يهزُّ الحرامي رأسـَه قالباً شفته السـُّفلى وربما كان يرغب في الإطراق لولا أن الحالة تطلـَّبت الالتفات فوراً إلى الزَّبائن المصطفين أمامه يطلبون تذاكر السفر

المسافرون:   قـالـُو في مـَحَطَّة جْـديـْـدِة       قـلـْنــا حـِلـي الـمِـشـْــوار

                  مُـدُن بـْعـيـْدِة وْرِحْلـِة سـَعيـْدِة      وْلـِـنــــا بالـعـالـَـم دار

                  بـَـدْنـا تـَذاكـِرْ بـَـدْنـا تـَـذاكـِرْ     صارْلـُـو زَمان الـنـَّاطـِر ناطِر

........

تحميل الصفحة كنسخة ملائمة للطباعة