الجزء الأول

.......

اختيار المسرحية ساحة الخضرة موقعاً لعرض حكايتها مثالٌ آخر من جماليات الإبداع الرحباني وهو دليل آخر على إصرار الأخوين على شعبية أدبهما الواقعي الحيّ وعلى الهارمونية الفائقة القدرة التعبيرية فـي تضامن العناصر المسرحية.

بمقدمة قصيرة تؤديها الأوركسترا مستعرِضة مكوِّناتها الوترية والإيقاعية ندخل إلى ساحة الخضرة التي تعجُّ بالناس وحركاتهم السريعة ونداءات الباعة المشغولين بالعرض والترتيب وتلبية طلبات الزبائن وبالوزن والتغليف والمحاسبة وقد غطـَّت وجوهَهم ابتساماتُ الرِّضى وارتخت عضلات خدودهم قناعة بما قدَّمتـْه لهم الطبيعة السـَّخية والأرض الطيبة فراحوا يغنـُّون لكرمها مرحبين بالشاويش.. وصباح الخير!

الباعة:  / يــَلاّ يــَلاّ يــَلاّ يــَلاّ       واسـِع بابـَك واســِع عَ الدِّنـْيي كِـلاَّ

        يــَلاّ يــَلاّ يــَلاّ يــَـلاّ       ضَوّ نـْهارََك طالـِع وِالـرِّزْقـة عَ ألله

        شـَمـْس المـَطالـِع  بـــاب الواسـِع       والضـَّـوّ الطـَّالع طـالـِعْ

        مـْشـِيـْنـــا وْيـــــــــَــــــــلاّ / (2)

 .......

 (الشـَّخص) حاكمٌ وضعته الجهات المستفيدة فـي مرتبة سامية لا يصل إليها أحد.. فهو الرَّمز الأوحد الذي يُختزل به الوطن وتتمثل بكرمه العدالة، وهو الضـَّرورة التي لا غني عنها، وإلا حلَّ الضـَّياع. والمتصرف وأجهزته أصحاب مصالح تقوم ما قامت رفعة الشخص وقوته. أما ما يَلزم لضمان سلامة هذه التكوينة فتتوزعه المستويات المتدرجة باتجاه الناس وصولاً إلى أصحاب بسطات الخضرة الذين أوصلهم هذا الواقع إلى حال يبادلون فيها مصلحتهم بالرشاوى التي يتناولها الشاويش وهو مُغـْمِض العينين.

والأخوان رحباني باستعراضهما للبنية الاجتماعية يعكسان الواقع بأمانة وصدق مـُظهرين سلوكية الفرد حين تتقاذفها الاحتمالات ضحية تتأرجح حـَيرى بين الضعف والقوة.

.......

الساحة الآن جاهزة لاستقبال موكب الشَّخص وكلٌّ فـي مكانه والسكون يرافق حالة الترقـُّب والاستعداد للتصفيق لحظة الوصول كما طلبت رئيسة اللجنة وطمأنها المتصرف (رِشـَّيـْنا بين هالنـَّاس  من قـِبَلـْنا ناس).

سكون الساحة الذي لم يخفِ طبيعته المصطنعة خرقه دخول فتاة بعربتها المحمـَّلة بالبندورة بشكل هاديء لا يكترث لما حوله لا تلبث الفتاة أن تبدأ مناداتها على ما عندها غناءً ناعماً:

بائعة البندورة:  فـي مـَعـْنـــا بــَنـَـدورَة جــَبـَـلـِــيـِّـة الــبــَنـَــدورَة

               لا مـَغـْشـُوشـِة وِلا مـِرْشوشـِة     مـْن الـْجـــــِرْد البــَنـَدورَة

أقلق الواقفين هذا الظهور المفاجيء فانبروا فـي الفتاة مـُؤنـِّـبين وطالبين منها، بلهجة قاسية ونغمة مختلفة عن نغمة البائعة، السرعة بالخروج:

الجميع:        يا بنت ابـْعِدي مـِن هـالسـَّـاحة    ممنـُوعة الوَقـْفـِة بالســَّاحــــة

.......

 العجوز:      عَ عِلـْمي كـان فـي هـَون ساحـة؟

               وْنـاس وْبـِيـَّـاعين.. كـِنـَّـا نـِشـْـتري من هـَون.. شو نـَقــَلـِت السـَّاحة؟

البائعة:         السـَّاحة بَعــْـدا.. بـَـسّ النـَّاس الـْ كـانو فـَـلـُّـــو

العجوز:        يَعـْني فـَلـِّت الساحة.. أخـَدوها النـَّاس وْراحـو

البائعة:         السـَّاحة لـَوَيـْن بـَـدَّا تـْرُوح؟

العجوز:        يا بنـْـتي بـِتــْــــرُوح.. لـَمـَّا بـْـتـِفـْضى الــْقـَنـِّيـْنـِة

               وْما يـْعـُود فيها نـْبـِيـْد.. شو بْيـِبْقى مْن الـْقـَنـِّيـْنـِة؟

               اصـْوات النـَّاس.. الـْبــِيـَّاعـين.. العَرَبيـَّـــــات..

               الـْـكـَـرَز.. الـتـِّـفــَّــاح.. الــــْــــوَرْد..

               كـِلـُّـن تـَرَكـُو السـَّاحة.. بـِقــْيـِت فـْراغـَة السـَّاحة

مرة أخرى مع الفلسفة الرحبانية بأبسط صورها وأقوى معانيها. لزجاجة النبيذ قيمة نبيذها وبانتهائه لا قيمة للـْ (فـْراغـَة). وليس للساحة معنى إن هي قفرت من الناس والباعة والمحاصيل.

الأخوان رحباني يذكـِّراننا دوماً بأن الوطن يتمثل بعنصريه مجتمعـَين: الأرض والشعب الحـُرّ السَّعيد.. ولا قيمة لأحدهما من دون الآخر.

 .......

البائعة:         أنــا قـَضـِيـِّـة           مـَظـْـلــُـــومـــِة.. خـَلـِّصـْنـي!

المتصرف:     يـــا لـَطيف ما حدا مرْتـاح..

               لا الـْمـَحـْكـُوم مرتاح وَلا الحـاكِـم مرْتــاح     مـَوْقـْفـِكْ مْحـَزِّنـِّي

               وتـْذكـَّرْتـِك طــُول اللــَّيل     كــان خـْـيالـِك عَ الـْقـِنـْديـــل

عبارات المتصرف بعثت شيئاً من الأمل فـي نفس الفتاة القلقة:

البائعة:          إذا هـَـيـْـــك.. ساعـِــدْنــي

المتصرف:      بـْـشـُو بـِـتـْريدي سـاعـْدِك؟            قـُـولـِي..

                بـِبـْعـَـتـْلِكْ بـِـطـَّـانـِـيـِّـة؟.. حـْرام؟.. أكل؟

البائعة:          بـَدِّي تساعـِدْني بْمِـشْكِلـْتي

المتصرف:      هايـْدي ما عـادِت بِــإيـدي

البائعة:          طـَـيـِّـب لـَيـْـــش عـْمِلــْتـُــو فـِيي هـَيــْـــك؟

المتصرف:      يــا بنـْـتي قـَدّري الـْـمـَوْقِف.. تـْحـَمـَّلـُونـا

          إذا إنـْـتـُـو اوْلاد الـْبـَلـَد ما تـْحـَمـَّلـْـتـُُونا، ميـْن بـَدُّو يـِتـْحَمـَّلـْنا؟

البائعة:          بـَسِّ إنـْت الـْ عـَقــَّـدْتـا وْإنت لازِم تـْـحـِـلاّ

المتصرف:      لا يــا بنـْـتي.. لا..        أنا بـْـيـِظـِلـْموني!

                أنا باب.. باب سـْميك.. بـْيـِقـِعْدُو خـَلـْفــــــــــــــي

وْبيـْصيرو يـْسـَكـّروني بـْوِج النـَّاس.. شـُو بتـْريـْدي أعـْمـِلْ؟

                صــار عـْلـَيـَّي ضـَغـْط..

                اللـِّي فـَوْق بْيـِضْغـَطو عْلـَيـِّي.. وْأنا بـِضْـغـَط عَ اللـِّي تحـــــْت

                واللـِّي تحْت عَ اللـِّي تحْت.. وْإنتو اللـِّي تحْت، إنـْتو الأســــــــاس

                وْأساس البـِنايـِة بـْيـِتـْـحـَمـَّل البـِنايـة.. افـْـرَحـُـو وِانـْـبـِسْطـُو

                لأنّ العـِنـــايـِة اخـْتــارِتـْكـُن تـَ تـْـكـُونو أساس البـِـنـايــِـة.

المتصرف يظـُنُّ نفسه قد وصـَل لمبتغاه.. فهو يريد أن يـُقـْنـَعنا عبر الفتاة بأن (العـِنايـِة) قسـَّمت النـَّاس إلى مستويات كطبقات المبنى الذي تقوم أدواره العليا على الدعائم المرتكزة فوق الأساس مما يعطي الأخير أهمية حـَمـْل المبنى وهو يريد للناس أن يكتفوا بالفخر والسعادة لكونهم ذاك الأساس!!.. ولكن البائعة التي أخذت معاييرها فـي الحياة من سوق الخضرة لا من معابد "العناية" وهياكلها وآبائها ترفض بشدة هذا التقسيم غير العادل والذي تعيده لا للـْ (العـِنـايـِة) بل للسلوك المرتبط بالمصالح الطبقية للحكام ومَن حولهم.. وهي الآن ستردُّها صاعـَين إلى المتصرف باسم باعة الخضروات وباسـْم ملايين الناس عبر التاريخ وعبر البلدان تحذر هؤلاء من غضب (أساس البـِنايـِة) عندما يطفح الكـَيـْل:

البائعة:    وْ لابــُـدّ هــالأســــاس              ما يـْـشـَـلـِّع التـّــراب

          وِيـْـــزَعـْزِع البـِـنـايــِـة              والحـِيطان والابـْــواب

 

تحميل الصفحة كنسخة ملائمة للطباعة