الجزء الثاني

 

.........

 

في دكان من هذه النوعية وعند حدود البلد المجاور لدولة (ميدا) الافتراضية رصد الأخوان رحباني في عام 1970 انقلاباً عسكرياً ضد إمبراطور الدولة قام به مجموعة من الأشخاص المتحالفين مشكلين مجلساً مؤقتاً للحكم ريثما يتفقون بعد ضمان نجاحهم على تعيين قائد بصفة دائمة، فكانت المسرحية السياسية الاجتماعية (يعيش يعيش) التي عُرضت على خشبة قصر البيكاديلي في بيروت في شتاء العام نفسه ولم تعرض في دمشق، كما تمنى الناس ضمن نشاطات المهرجان الثقافي المرافق لمعرض دمشق الدولي في العام 1971 وإنما عرضت بدلاً عنه مسرحية (صح النوم) وضاعت فرصة كبيرة أمام الجمهور الرحباني في سوريا والذي حرص دوماً على إظهار تعلقه بالأعمال الرحبانية.. ولكن مسرحية (يعيش يعيش) دخلت البيوت السورية عبر أجهزة الراديو والتسجيل وأدخلت معها المفاهيم والرؤى الرحبانية ذات الدلالات والبصيرة والتأثير التربوي العظيم!

والأخوان عاصي ومنصور، اللذان أتحفا التراث الأدبي الفني بأعمال مسرحية غنائية عظيمة سجلت قيماً انتقادية بناءة في مجالات العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية قبل (يعيش يعيش)، توَّجا عـَقداً من التطور بهذه المسرحية القوية التي حافظت على ألقها وجمالها الفني والأدبي وقوة مضمونها السياسي.. وما زال الناس يستمعون إليها بتفاصيلها وحذافيرها مسقطينها على الزمان والمكان ما يحلو لهم ودونما قلق.. فدولة (ميدا) مكان فوق المكان وزمانها فوق الزمان ونص المسرحية شمسٌ خالدة النور، والمسرحية بجميع عناصرها شاهد آخر على عبقرية فذة وعلى عمق وشمولية وفراسة تزداد بها قناعة الجمهور الرحباني بهذه المدرسة العظيمة وبالقدرات الإبداعية الكبيرة لروادها.

لقد أراد الرحبانيان أن يقولا أشياء كثيرة من خلال مَشاهد وحوارات وأغاني المسرحية.. ولكن أهم ما أبرزاه من هذه الأشياء تأكيدهما القناعة الراسخة بحتمية التطور، وإن غلبت آمالـَنا المفاجآت: (الدِّنـْيي بـْتـِمْشي.. الشـَّعب بـْيـِمـْشي.. وْما حـَدا وِجـُّو لـَخـَلـْف.. كلـُّنْ وِجـَُنْ لـَقـِدَّام: الـِوْلاد.. النـَّاس.. الإيـَّام.. كلـُّنْ وِجـَُّنْ لـَقـِدَّام..)!.

.......... 

في مقدمة الفصل الأول تتحاور مجوعات الأوركسترا بالتتالي في نغمة يغلب عليها طابع التنبيه الملوَّن بإيقاعات قصيرة الموجة تبرز فيها الدفوف والرقّ والإكسيليفون وغيرها لتضعنا في بوابة المسرحية وحدثها المثير عبر الفعل السحري للـ (دِمْ) والـ (تـَكْ) وما يصاحبه من (خشخشة) يعقبها لحن الحدث و.. :

صوت من الإذاعة:         هنا محطة إذاعة ميدا

                           بلاغ رقم (واحد)

                           إلى عموم المواطنين ..

بعد الاتكال على الله والشعب قامت قوات الفصائل الانقلابية فجرَ هذا اليوم باحتلال مبنى الإذاعة والتلفزيون وجميع الدوائر الرسمية دون مقاومة لتخليص البلاد ووضع حد للفساد والطغيان.. وقد توارى الأمبراطور عن الأنظار ..

                           نطلب من المواطنين أن يلزموا الهدوء

                           هيئة الإنقلاب العليا

تعزف الموسيقا لحناً عسكرياً يصاحبه نشيد ملائم للموقف (إنقلاب.. هرب الأمبراطور..) يعبر فيه قسم ممن في المقهى مقابل الراديو عن عدم تأييدهم للحركة الإنقلابية (وهم ذوو الشوارب المرفوعة إلى الأعلى) بينما يباركها القسم الآخر (وهم ذوو الشوارب المرمية إلى الأسفل) ..

ثم يعود المذيع والبلاغ رقم (2):

المذيع:                    هنا محطة إذاعة ميدا

                          بلاغ رقم (اتـْنـَيـْن)

.......... 

برهوم:                   هـَيـْئتـِكْ من حزب الإنقلاب !!

هيفاء بـِحدة:             أنا من حزب الدِّكان

            اعـْمـِل معـْروف ناولـْني هالسـَّـلـِّة.. وْ بـَلا ما نـِحـْكي سْياسـِة !

وتتناول هيفاء المنهمكة بعملها السلـَّة من الأمبراطور الذي يقدمها إليها دون أن يتمكن من إخفاء امتعاضه واستغرابه لهجة هيفاء التي تداركت الأمر الناجم عن عفويتها وعن كونها ليست مقتنعة بالدفاع عن الأمبراطور كما أنها ليست معنية بتأييد الإنقلاب.. وتعتذر:

هيفاء:                   دَخيـْلـَكْ لا تـْواخذني.. كـِبـَّرْتـِلـَّكْ بالـْحـَكـِي.

                        نـْسـِيـْت إنـَّكْ ضـَيـْف وْمـُشْ مـُسـْتـَخـْدَم ..

                        مشـْكـِلـْتـَكْ إنـْت وْمـَرْتـَكْ ..       أنـا كـَتـِّيـْرِة حـَكـِي !!

برهوم:                  لا يا هيفا.. أنا مبـْسوط مـنـِّـكْ

هيفاء:                   بالشـَّرَفْ ؟

برهوم:                  عـَجَبـِتـْني صـَراحـْتـِكْ

هيفاء:                   فإذن.. قوم احـْمـِل لي هالسـِّحـَّارَة

لا يتردد الأمبراطور برفع سحـَّارة الخضرة وإدخالها إلى الدكان الذي بدأ يشعر بخصوصيته ويرى فيه المسرح الذي يعرض حياة الناس وهمومهم وتفكيرهم وعلاقاتهم ببعض وبالسلطة ونوعياتهم المكوِّنة للمجتمع الذي كان سيـِّداً له منذ أيام دون أن يرى شيئاً مما يراه الآن.

في هذه المسرحية بالذات برزت القدرة الكبيرة للفنانة فيروز على التمثيل أكثر مما كانت عليه في مسرحياتها السابقة، دون أن نغفل بالطبع دورها الرائع في مسرحية "بياع الخواتم" وأدوارها الأخرى في المسرح والسينما. وسنرى فيروز الممثلة إلى جانب فيروز المطربة في المسرحيات اللاحقة بكامل التألق والبراعة. جدير بالذكر أن القيادة اللبنانية منحت السيدة فيروز في هذا العام (1970) وسام (لقب من رتبة ضابط).

......... 

أكثر ما كان يقلق الناس ويجعلهم فاقدي الأمل في سلامة الحركات الإنقلابية كونها ذات طابع عسكري يبدأ بالبلاغ (رقم واحد) والموسيقا العسكرية تتلوه برقيات التأييد من مجموعات الضباط ورؤساء العشائر والمتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال والملكيات الكبيرة. وعبارة هيفاء لا تعني المباركة أو الموافقة الجماهيرية على الإنقلابات العسكرية بقدر ما تعني التحرك والتغيير اللذين، وإن لم يتمخضا فوراً عن تحسين الأمور المعاشية والنفسية للناس، فإنهما غالباً ما يحرضان وعي الناس وانخراطهم في العمل السياسي ووجوههم إلى الأمام (كِلــُّنْ وِجـَُنْ لـَقـِدَّام).. لقد آمن الأخوان رحباني باكراً بالتطور وعجلة الزمن ودورانها اللولبي وباشتراك الجميع (الـِوْلاد.. النـَّاس.. الإيـَّام) بهذه الحركية الدائمة.

في أهم زوايا أي عمل مسرحي رحباني رأينا الوعي والإدراك المادي للأشياء واضحَين كشمس الشرق ثابتـَين كعزيمة رجاله ومرنـَين كأغصان الأرز والزيزفون فكان الإبداع وكان الفن وكان الجمال الذي اهتزت به مشاعرنا بكل أنواعها فتعلقنا بحدائقه وفضاءاته التي تتكرَّس في جمالياتها المقولة الرحبانية الخالدة التي جاءت على لسان الراحل عاصي (الفن ابن الوعي).

وطالما أن الأمبراطور اكتشف الآن درجة من الوعي عند فتاة الدكان البسيطة يفتقر إليها عناصر الحلقة الأقرب من السلطة فلماذا لا يضع الشعب ممثلاً بهيفاء في مكانه مُستنـْبطاً رؤيا قد لا تكون في مدار انتباهه:

برهوم:             لـَوْ إنـْتي مـَطـْرَح الأمبراطور شو كنـْتي بـْتـَعمـْلي ؟

هيفاء:    بقـْلـُب الإسـْطوانـِة.. بمـْشي عَ المـُوضـَة: تـَحرُّرْ.. تـَمـَرُّدْ.. حرِّيـِّة.. عـَدالـِة

يـْغـَيـِّرْ شــَكـْلـُو.. يـْغـَيـِّرْ إسـْمو.. يحـْلـُقْ دَقـْنـُو ..

  يـْصير زَلـْمِة مـِتـِل هالزِّلـِمْ          وْينـْزَل عَ هالـْغـَبـْرة يـْعارِكْ

حاجـِة قــاعـِدْ عَ هالـْعرْش متـْل القاعدْ بالمتـْحف        والدِّنيي عمْ ترْكـُض بـَرَّا

.........

برهوم:         في كتير بيعيشـُو مِن هالشـَّغلــِة؟

ملهب:          ضـَيـْعـْتي كِلا ّ.. لـَو بتـْشوف بـْهالطـّواقي الزّغيرِة شو في وجوه

                خـَلـْف هالحيطان السـّميـْكـِة شو في بـْواريد ..

                بـَدُّنْ ياكـْلـُو.. بـَدُّنْ يـْعيشـُو ..

                بـَدُّنْ يبـْعـَتـُو وْلادُنْ عَ المـَدِرْسـِة أحلى ما يطـْلـَعـُو متـْلـُنْ

برهوم:         رأيي إنـُّو الـِحـْكومـِة مجـْبورة تـْعـَلـِّمـْلـُن وْلادُنْ

ملهب بسخرية: الـِوْلاد بـَدُّنْ يكـْبـَرو ما بـْيِقدْرو ينـْطرو تـَ يـْصيرْ في حـْكومـِة

                                كاسـَكْ خيـِّي برهوم !!

يشرب الجميع ويسأل برهوم محاولاً إشباع فضوله (مـَبـْسوط بـِعيشـْة التـَّشـَرُّد ياملـْهبْ؟)

ملهب:                             تـْعـَوَّدْنا عـْـلـَيـَّا ..

                            أنا والأمبراطور صِرْنا مـِتـِل بعـِضـْنا ..

               هـُوِّي مَطلوب وْأنا مَطلوب.. بسّ هوِّي في عـْلـَيه جايـْزِة

حديث شيـِّقٌ بقدْر ما هو مفيد بالنسبة للأمبراطور الذي لم يكن قد سمعه من قبل، وفلسفة بسطاء فيها الواقعية وفيها الحقيقة ومنها ربما تأتي الفكرة التي يحتاجها.. ولا من مستشار يصور الحياة ويقود إلى المعرفة الضرورية كهذا المهرِّب وشخصيته الفريدة.

........

ملهب:                  يعـْني قرَّرنا نـَعـْمل إنقـِلاب عَ الإنـْقـِلاب

                        وْنسـْتـِلـِمْ الحـِكِمْ تـَ نـْخـَلـِّص الـِبـْلاد من هالـْفـَوْضى

برهوم                 بسّ أنا شو دَخـَلـْني؟

ملهب:                   وَلـَوْ.. بـِ مـَعـِيـْتـَكْ !

برهوم:                  أنا مواطن بـَسيط

ملهب:                  عارف.. عارف

برهوم:                  وأنا مع الأساليب الديموقراطية

ملهب:                   ليش أنا شو؟

                         مَ أنا مـْرَتـِّبـْها عَ الديموقراطية ..

                         بما إنـَّكْ مطـْلوب.. وْأنا مطلوب..والشـَّيخ بو متـْعِبْ مطلوب ..

                         وْنـِصّ النـَّاس صارو مطلوبين صرْنا الأكتـَرِيـِّة ..

                         وْمازالا ديموقراطية الأكتـَرِيـِّة بـْتـِسـْتـِلـِمْ الحكم

 برهوم:                  كيف هيك؟

ملهب:                   هـَيـْـكْ.. ماتـْجادلـْني ..

                         أنا بالسـَّهْرة افـْتـَكـَرْت وْظـَبـَطـِتْ معي

                         وَيـْن في مـْهـَرِّبْ.. وَيـْن في طـايـِح.. كلـُّو مـْوافـِق

                         أحسن شي يـِجو عَ الحـِكـِمْ.. بـْيـِنـْضـَبـُّو

برهوم:                  الشـَّغـْلـِة بـَدَّا دَرِس

ملهب:                   الدَّرْس بـْيـِنـْزَع الشـَّغـْلة ..

                         إنت رئيس هيئة الإنقلاب وْنحـْنا المجـلس المـُوَقـَّر

                         كان ناقصنا واحد يكتب وْيقرا حـِطـَّيـْناك إنت

 .........

صوت من الإذاعة:       هنا محطة إذاعة ميدا. بلاغ رقم (واحد)

                         إلى عموم المواطنين ..

بعد الاتكال على الله والشعب قامت قوات برهوم ومتعب باحتلال مبنى الإذاعة والتلفزيون وجميع الدوائر الرسمية. وقد رفع برهوم جائزة القبض على الأمبراطور من مائة ألف ليرة إلى مائتي ألف ليرة.

ملحوظة: ممنوع على أصحاب الدَّكاكين يـْلـَفـُّو حدا

المستمعون           برهوم ما غيرو؟

هيفاء:                 برهوم ما غيرو

 

تحميل الصفحة كنسخة ملائمة للطباعة